مخابز بغزة تستخدم مياه "الحنفية" الملوثة بالنترات المسببة للسرطان

حجم الخط

كشف محققون أن أرغفة الخبز التي تباع في المخابز تحتوي مواد مضرة؛ على شكل نسب مرتفعة من النترات الناتجة عن استخدام غالبية المخابز لمياه "الحنفية" المالحة، وفقاً لتحاليل مخبرية أجراها فريق تحقيق استقصائي، وأكدها مسؤولون في وزارة الاقتصاد الوطني، المسؤولة عن ترخيص المخابز والرقابة عليها.

الوزارة تبرر ضعف الرقابة بقلة عدد المفتشين وغياب قانون ناظم لهذا القطاع.

والمفارقة أن وزارة الاقتصاد الوطني سارعت لإرسال تحذير على شكل "تعليمات" خلال حديث فريق التحقيق مع وكيل مساعد وزارة الاقتصاد الوطني الدكتور عماد الباز، لجميع المخابز بحظر استخدام "مياه الحنفية" في صناعة الخبز لكن دون الارتكاز إلى قانون محدد أو تحديد سلم عقوبات جزائية، وتحركت الوزارة فقط بعد أن أطلعها فريق التحقيق على مخالفات هذا القطاع.

وتوصّل الفريق إلى أن غالبية المخابز في غزة والمقدر عددها بـ (120) مخبزاً – باستثناء مخبز وحيد- تستخدم مياها غير صالحة للشرب من شبكة المياه (الحنفية)، وفقًا لنتائج عينات مخبرية أخضعت للفحص في مختبر جامعة الأزهر، وبحث ميداني لـ (25 مخبزًا) في محافظات قطاع غزة الخمس.

وزارة الاقتصاد الوطني تعرف أن غالبية مخابز غزّة لا تستخدم مياهاً مفلترة لكنّها لا تتخذ إجراءات رادعة بحق المخالفين، باستثناء "التعميم" المتأخر.

وفي جولة ميدانية لاحقة، أكد أصحاب مخابز لفريق التحقيق أن دائرة حماية المستهلك أرسلت لهم بالفعل تعميما في كانون الثاني/ يناير 2015 بضرورة استخدام مياه مفلترة في إعداد الخبز، ولكن أيا منهم لم يلتزم بتلك التعليمات، بسبب إدراك أصحاب المخابز بأن الوزارة لن تتخذ أي عقوبة بحق المخالفين.

هذه الممارسات تعد مخالفة للمواصفات الفلسطينية الخاصة بالخبز والتي تنص على ضرورة استخدام ماء شرب مطابق للمواصفات الفلسطينية، والذي يجب ألا تزيد نسبة النترات فيه عن 50 ملجم/ لتر.

تفاعلات في بيت النار

وتتكثف خطورة النترات بمجرد دخولها (فرن) النار- كما يجمع الخبراء الذين التقاهم فريق التحقيق، بحيث يتشكّل مركب النيتريت، الذي يتفاعل بدوره مع الأحماض الأمينية الموجودة في جسم الإنسان، فيتكون مركب النيتروز أمينات؛ أحد المسببات الرئيسة لسرطان المعدة.

سكان قطاع غزة لا يستخدمون المياه التي تصلهم عبر "الحنفية" للشرب وإعداد الطعام، لعدم صلاحيتها للاستخدام، بحسب مدير عام مصلحة مياه بلديات الساحل منذر شبلاق، الذي يؤكد أن 96 % من مصادر المياه في القطاع ملوثة بنسب عالية من النترات والكلورايد، أعلى من معدلات منظمة الصحة العالمية؛ التي تشدّد على ألا تتجاوز نسبة النترات في المياه 50 ملجم/ لتر. ارتفاع هذه النسبة -حسبما أثبتت الفحوص- يعود إلى انتقال النترات من المياه الملوثة إلى الخبز وحدوث تفاعل كيميائي بين المكونات داخل بيت النار، ما يضر بصحة المستهلكين ويؤثر في البيئة.

"حنفيات" لا تروي العطشان

وكبديل عن مياه الحنفية الملوثة بالنترات، يعتمد سكان غزة على مياه محطات التحلية المنتشرة في القطاع في الشرب وإعداد الغذاء، بمعدل سعر يساوي أربعة دولارات مقابل (500) لتر من تلك المياه، لكن أصحاب المخابز لا يتوانون عن ضخ مياه الحنفية إلى أهم مادة غذائية على موائد الغزيين، وبالنتيجة ما يهرب منه الغزيون نتيجة تلوث المياه، يعاد إليهم مرة أخرى عن طريق الخبز.

دمغة المختبر

أخذ فريق التحقيق عينتين من الخبز، الأولى من أحد المخابز المشهورة في مخيم الشاطئ ثالث أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة، وأحد أكثر المخيمات اكتظاظا بالسكان (82 ألف لاجئ مسجل)، أما العينة الثانية فتم أخذها من مدينة خان يونس (68 ألف لاجئ مسجل).

أُرسلت عينات الخبز إلى مختبر جامعة الأزهر في مدينة غزة، وبعد أربعة أيام، أظهرت نتائج تحاليل الفحص الكيميائي لرغيف الخبز الأول، وجود مادة النترات بنسبة 62.45 ملجم/ كجم. أما العينة الثانية فأظهرت وجود مادة النترات بنسبة54 ملجم/ كجم، بما يخالف المواصفة الفلسطينية الخاصة بالخبز التي تؤكد على وجوب "خلو الخبز من أي مركبات كيميائية".

محاولات الفريق الاستقصائي للحصول على عينات مياه من داخل المخابز باءت بالفشل، كون فريق الحماية التابع لوزارة الاقتصاد الوطني هو الجهة الوحيدة المسموح لها بذلك، لكن هذا الفريق أطلع الصحفيين على نتائج فحص أجري مطلع العام الجاري، يشير إلى وجود نسبة نترات عالية جدا في عينات مياه مسحوبة من قبله، إذ وصلت نسبة النترات في بعض العينات إلى 180 ملجم/ لتر أي تقريبا أربعة أضعاف الحد المسموح به، وفق حديث موثّق لوكيل وزارة الاقتصاد الوطني، ومدير حماية المستهلك في الوزارة زيادة أبو شقرة، ولكن لم تتخذ الوزارة أي إجراء بحق ذلك المخبز.

مخالفة للمواصفات

تنص المواصفة الفلسطينية الخاصة بالخبز على وجوب "استخدام ماء شرب مطابق للمواصفة الفلسطينية"، والتي توصي بدورها بأن لا تزيد نسبة النترات في مياه الشرب عن 50 ملجم/ لتر، بينما حددت مؤسسة حماية البيئة الأمريكية، نسبة النترات في المياه، بما لا يتجاوز 10 ملجم/ لتر، وكذلك وضع الاتحاد الأوروبي معيارا لوجود النترات في المياه بما لا يتجاوز 15 ملجم/ لتر.

لا يدركون المخاطر

واجه فريق التحقيق أصحاب المخابز التي أُخذت العينات منها، كما أجرى استطلاع رأي بين خمسة مخابز في المحافظات. وبيّن الاستطلاع أن جميع أصحاب المخابز والعاملين فيها لا يدركون خطورة استخدام مياه الحنفية في صناعة الخبز، أحد أصحاب المخابز يبرر استخدامه لمياه الحنفية بأن "الجميع يستخدمها، وهي غير مضرة"، وأن استخدامه للمياه المفلترة أو الحلوة "سيكلف الكثير من المال".

البعض الآخر ذهب إلى أن المياه "لا تضر"، وليس فيها إلا "نسبة زائدة من الملح"، كما يقول مالك مخبز التقاه فريق التحقيق. ويؤكد أنه يلجأ إلى " تقليل نسبة ملح الطعام في الخبز، لأن المياه تحتوي على الأملاح بشكل طبيعي". ويذهب آخر إلى القول: إن "جميع الأملاح, أو أي مواد تكون في المياه، مع دخول العجين في النار، تتلاشى وتختفي بشكل كلي".

ولكن الفحص المخبري وآراء المختصين تناقضان هذه الأحاديث، وذلك أن الفحص المخبري أثبت بقاء النترات وتفاعله في رغيف الخبز بعد دخوله النار.

بقعة ضوء

فريق التحقيق توجه إلى المخبز الوحيد في غزة الذي يستخدم مياها مفلترة صالحة للشرب، فتبين أن لدى المخبز "محطة تحلية خاصة للمياه المستخدمة في إعداد الخبز"، بحسب مالك المخبز.

 

  صاحب المخبز يقول: إن "تكاليف ربطة الخبز لم تتأثر حين استخدمنا مياها محلاة، وهو يماثل الأسعار الموجودة في القطاع". ويرجع مالك المخبز استخدامه للمياه المفلترة إلى "عدم صلاحية المياه التي تصل من البلدية للاستخدام الآدمي".

الرأي العلمي

فريق التحقيق عرض نتائج الفحوصات المخبرية على مدير وحدة الدراسات والأبحاث البيئية في مركز معًا التنموي الدكتور جورج كرزم، الذي يؤكد بدوره أن نسبة النترات التي تم اكتشافها في الفحص المخبري لفريق التحقيق، "خطيرة جدًا على صحة الإنسان".

تكمن خطورة النترات في "سرعة تحولها إلى نيتريت مع المعالجة الحرارية، وحين تناولها من قبل المواطنين "تتحد مع مركبات الجسم، لتتحول إلى نيتروز أمينات، الذي يعد من أشد المركبات الكيميائية المسرطنة".

حسبما يشرح كرزم، لافتا إلى أن "النترات ترتبط بشكلٍ مباشر مع النيتريت، أي أن النترات تبقى بالخبز وكذلك النيتريت"، وهنا جوهر المشكلة الأساسية"، بمعنى أنه في حالة كانت نسبة النترات مرتفعة في الخبز أو المياه، ستكون نسبة النيتريت مرتفعة بشكل أكبر في الخبز، وهنا تكمن الخطورة على صحة الإنسان".

كرزم يؤكد أنه وفي ظل ارتفاع نسبة النترات في الخبز، فإن "نسبة النيتريت سترتفع بشكل تلقائي إلى الضعف"، أي إذا كانت نسبة النترات في رغيف الخبز الواحد 50 ملجم/ كجم، ستكون نسبة النيتريت ضعف ذلك الرقم. "عدم توفر إمكانية لفحص النيتريت في السلع الغذائية الناتجة عن استخدام المياه "، كما يقول كرزم: "مشكلة تؤرقنا في فلسطين، وحتى اللحظة لا توجد آلية عملية لقياس تركيب النيتريت في فلسطين".

تحول النترات إلى نيتريت، "لا يؤثر فقط على البالغين"، يوضح كرزم، بل يؤدي كذلك إلى ظهور مرض الطفل الأزرق الذي قد يكون سببا في الوفاة. لكن لا توجد حتى الآن إحصائية لعدد هؤلاء الأطفال، وفقا لمدير المعلومات الصحية في وزارة الصحة د. عاطف مسعد.

المختص في الكيمياء العضوية والمحاضر بجامعة الأزهر في غزة الدكتور حسن طموس، يؤكد ما ذهب إليه كرزم، إذ إن ماء "الحنفية" المستخدم في مخابز قطاع غزة "يحتوي على نسب عالية من النترات، التي لا تختفي من الخبز بعد التسخين ودرجة الحرارة العالية"، بل على العكس "تتحول إلى نيتريت مع التسخين، وهي المادة التي تعد شديدة الخطورة على صحة الإنسان".

 

ويوضح طموس أن جميع الدراسات العلمية الحديثة أثبتت أن ارتفاع معدل النترات فوق 10 ملجم/ لتر، يؤثر على الأطفال حديثي الولادة ويؤدي إلى ظهور مرض الطفل الأزرق، بسبب وجود مركب النترات في حليب الأم. في حال تأكد أن المياه المستخدمة في المخابز في قطاع غزة مياه الحنفية العادية - يقول طموس- فإن ذلك "يعني مشكلة كبيرة، لأن مياه الآبار تحتوي على نسب عالية من النترات، وحين يصبح التراكم كثيراً تنتج عنه مشاكل صحية كبيرة على مستوى الإصابة بالسرطان".

 

بعد المعلومات التي سردها طموس، ومدير وحدة الدراسات والأبحاث البيئية في مركز معًا التنموي البيئي، توجه فريق التحقيق بنتائج العينات، لرئيس وحدة التثقيف بالمعهد القومي المصري للتغذية وجدي نزيه، الذي يؤكد أن النترات من المركبات الكيميائية التي تسبب مشاكل صحية للإنسان. ويشرح نزيه أن الإفراط في استخدام المركبات التي تحتوي على نترات عالية، يعد أحد الأسباب الرئيسة في تفشي الأورام السرطانية، التي أصبحت منتشرة بمختلف أنواعها في المنطقة، مع مختلف الفئات العمرية والصحية. وبحسب نزيه، فإن منظمة الصحة العالمية "تطالب بخفض المتناول من هذه المواد قدر المستطاع، والترشيد فيها".

إحصاءات وأرقام

ينتشر مرض السرطان في قطاع غزة بشكل مطَّرد وفق تأكيد مدير مركز المعلومات الصحية في وزارة الصحة الدكتور عاطف مسعد، إذ يقول: إن "أعداد المصابين بالسرطان يزداد بوتيرة متسارعة سنوياً"، مبيناً أن هذا المرض "بات المسبب الثاني للوفاة في قطاع غزة بعد مرض القلب والأوعية الدموية".

في 2014 سجلت 1404 حالات سرطان جديدة، وفق مسعد، أي 117 حالة شهريا، أي ضعف المعدل الذي كان يسجل حتى عام 2010. ويبين مسعد أن سرطان الجهاز الهضمي "المعدة والأمعاء" يأتي في المرتبة الثانية على لائحة أكثر أنواع السرطان انتشاراً في قطاع غزة، بنسبة 14.5 %، بعد سرطان الثدي لدى النساء وبنسبة 34.5 %.

بالعودة إلى الإحصاءات المتعلقة بمرض السرطان في القطاع بين عامي 1995 و 2010، نجد أن نسبة الإصابة بالمرض ارتفعت بشكل خطير، وفقا لتقرير صدر عن مركز الميزان –مؤسسة فلسطينية غير حكومية- رصدت خلال 15 عاما 10 آلاف و780 حالة، ما يعني أن معدل عدد الحالات المكتشفة تضاعفت من 60 شهريا حتى العام 2010، إلى 117 حالة شهريا العام الماضي.

الرقابة عاجزة

رئيس جمعية المخابز في قطاع غزة عبد الناصر العجرمي، يؤكد أنه "لم يتم إغلاق أي مخبز على مستوى القطاع لأي سبب كان، سوى على خلفيات عدم الالتزام بالوزن، أو لأسباب تتعلق بعدم الالتزام بمعايير النظافة داخل أفران تلك المخابز".

وزارة الاقتصاد الوطني، بحسب العجرمي، "هي الجهة المسؤولة المباشرة عن مراقبة المخابز، وأيضا عن تسعير الخبز وأوزانه". لكن عمل المخابز من الداخل "أمر منوط بمسؤوليات دائرة حماية المستهلك من حيث جودة الخبز ووزنه".

من جانبها تؤكد وزارة الاقتصاد الوطني لفريق التحقيق على لسان وكيلها عماد الباز استخدام مياه الحنفية في غالبية المخابز في جميع المحافظات.

ويفسر الباز كلامه بالقول: إن فريق حماية المستهلك في الوزارة فحص "عينات مياه من داخل المخابز"، ليجد "نسبا عالية من النترات بالمياه المستخدمة في المخابز، وذلك خطير ويسبب أضراراً على صحة الإنسان".

 

  فيما بيّن مدير حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد الوطني الدكتور زياد أبو شقرة أن "نتائج الفحص المخبري للمياه، كشفت وجود نسبة النترات في المياه المستخدمة في المخابز تصل إلى 180 ملجم/ كجم".

ويقول أبو شقرة: إن المخابز "لا تلتزم بالشرط القانوني الذي يقضي باستخدام مياه مطابقة للمواصفات"، مؤكدا أن وزارته "تعاني من قلة عدد مفتشي دائرة حماية المستهلك، إذ يبلغ عددهم حاليا 50 موظفا موزعين على محافظات قطاع غزة الخمس، تضاف إليهم مهام الرقابة على الأسواق ومراقبة الأسعار، ومتابعة الشكاوى التي يقدمها المواطنون، والمحال التجارية والمصانع ".

ويرى أبو شقرة أن هذا العدد "غير كاف للضبط"، فيما كان العدد في الوزارة قبل الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني 120 موظف تفتيش".

لكن الوزارة، بحسب أبو شقرة، "ستتخذ إجراءاتها لوقف استخدام المخابز للمياه غير الصالحة للشرب"، ويؤكد أن حماية المستهلك "ستطلب من المخابز استخدام فلتر خاص لتحلية المياه"، متوعدا من سيخالف بـ"إجراءات صارمة تصل إلى حد إغلاق المخبز".

في انتظار تلك الإجراءات، يواصل أصحاب المخابز استخدام مياه غير صالحة للشرب، رغم أن غالبيتهم بات على دراية بمضارها.