حين يدعم الفلسطينيون جيش «الدفاع» الإسرائيلي

عبد الغني سلامة
حجم الخط

ينص «بروتوكول باريس» الاقتصادي على أن الأراضي الفلسطينية وإسرائيل تقعان ضمن غلاف جمركي واحد، باستثناء قوائم سلعية يسمح للسلطة الوطنية باستيرادها من الدول العربية خارج إطار التعرفة الجمركية والمواصفات الإسرائيلية، وضمن حصص محدودة يعاد النظر فيها كل ستة أشهر، وفقاً لاحتياجات السوق الفلسطينية، (ما زالت إسرائيل ترفض إعادة النظر في هذه القوائم).
وبناء عليه، من المفترض أن يقدم كل تاجر في كل عملية استيراد فاتورة للسلطة تسمى «فاتورة المقاصة»؛ وهـي فـاتورة موحـدة للجـانبين الفلسـطيني والإسرائيلي، يظهر فيها بيانات المستورد والسلعة أو الخدمة المتبادلة، وقيمة الضريبة المضافة، وبالتالي فهي تعكـس حركة التبادل التجاري ببن الأراضي الفلسطينية والجانب الإسرائيلي فقط.
بمعنى أن ضريبة المقاصة هي المبلغ المتحصل من الجمارك وضرائب القيمة المضافة على البضائع المستوردة لأراضي السلطة الفلسطينية، حيث تحصل إسرائيل على نسبة 3% من كل عمولة، وتحصل السلطة على باقي النسبة، ومجموع هذه الفواتير يبلغ قرابة 150 مليون دولار شهريا، بمعدل ملياري دولار سنويا، وهي تشكل 68% من ميزانية السلطة السنوية.
بمعنى أوضح، خلال «جلسات المقاصة» الشهرية التي يحضرها مختصون ماليون من الجانبين تقدم السلطة الوطنية الفواتير التي حصلت عليها من التجار الفلسطينيين، وفي المقابل تقوم إسرائيل بتحويل قيمة هذه الفواتير فقط، ولا تقدم فلسا واحدا دون أن يكون مقابله فاتورة مقاصة.
ولا شك أن هذا النظام مكّن إسرائيل من تقييد السلطة وابتزازها، حيث قامت أكثر من مرة بالامتناع عن تحويل أموال الضرائب كعقوبات اقتصادية ضد السلطة.. ما أضر كثيراً بالاقتصاد الفلسطيني.
ومن ناحية ثانية ساعد «برتوكول باريس» في تقوية الاقتصاد الإسرائيلي، حيث ساهم في انفتاحها على العالم من بوابة أوسلو.. ورغم خطورة وأهمية هذا الموضوع، إلا أن موضوعا آخر لا يقل خطورة وأهمية، هو التهرب الضريبي، وعدم قيام بعض التجار بتسليم السلطة فواتير المقاصة.
وفي هذا السياق قال رئيس الاتحاد العام للاقتصاديين الفلسطينيين د. «نبهان عثمان» لجريدة الحدث (العدد 78، ص 8) إن الفلسطينيين يضخون سنويا في الخزينة الإسرائيلية ما قيمته 800 مليون دولار دون مقابل، وهي تمثل قيمة الفاقد في حسابات المقاصة مع إسرائيل، عدا قيمة المشتريات الفلسطينية من إسرائيل، أو عبرها.
من جهته، قدّر الخبير الاقتصادي «نصر عبد الكريم» قيمة التجارة الفلسطينية بنحو 5 مليارات دولار سنويا، منها 3.5 مليار دولار عبارة عن سلع وخدمات من إسرائيل.
وأوضح عبد الكريم في نفس التقرير المنشور على «الحدث»، أن هناك طريقتين يتبعهما بعض التجار، تصبان مباشرة في صالح الخزينة الإسرائيلية، هما: التهرب الضريبي، وهو عادة من أجل التهرب من دفع ضريبة الدخل، فيقوم التاجر بإخفاء فواتيره عن السلطة، وبالتالي لن يقدمها الجانب الفلسطيني في جلسات المقاصة، ما يعني خسارتها، وهنا تمثل غزة أكبر مثال على ذلك (والقول لعبد الكريم) حيث لا تسمح حماس للتجار الغزيين بتقديم فواتيرهم للسلطة في رام الله.
والطريق الآخر، هو الاستيراد غير المباشر، أي من خلال وكيل إسرائيلي، حيث يخسر الفلسطينيون نتيجة ذلك قيمة الجمارك على البضائع المستوردة، عدا قيمة مشتريات البضائع الإسرائيلية والتي تقدر بنحو 2 مليار دولار سنويا؛ وهي بضائع يمكن استبدال معظمها بمنتجات فلسطينية أو عربية أو حتى أجنبية.

أين تكمن الخطورة؟
تكمن الخطورة في جانبين؛ الأول: خسارة السلطة الوطنية مبالغ مالية كبيرة من الممكن أن تجعلها تستغني عن أموال المانحين. والثاني هو أن كل فلس تخسره السلطة من ضريبة المقاصة يذهب مباشرة لصالح «جيش الدفاع الإسرائيلي»!
من المعلوم أن وزارة المالية الإسرائيلية تقدم موازنة الدولة السنوية للكنيست، وتحصل على موافقتها عليها، وبناء عليه يُخصص لكل وزارة أو هيئة أو مؤسسة داخل إسرائيل مبلغ محدد، ولا يمكنها أن تحصل على شيكل إضافي إلا بقانون معدل للموازنة وموافقة الكنيست، وهو أمر لا يحصل عادة، باستثناء وزارة الدفاع، التي لا يوجد لها سقف محدد لموازنتها، حيث تعتبر إسرائيل نفسها في حالة حرب دائمة، وبالتالي لوزارة الدفاع ميزانية مفتوحة.. ما يعني أن الأموال التي تجنيها إسرائيل من جراء فقد فواتير المقاصة ستذهب مباشرة لصالح جيشها.
خلاصة القول: بعض التجار، بسبب الجهل، أو الجشع، أو لإخفاء قيمة دخلهم الحقيقي، أو لأي سبب آخر يقومون بأنشطتهم التجارية، دون أن يقدموا للسلطة فواتير المقاصة، وبالتالي تخسر السلطة قيمتها، وهذه الخسارة تذهب لصالح الجيش الإسرائيلي.
ومع أن هذا السلوك غير مبرر، إلا أن السلوك الذي لا يمكن فهمه، هو سلوك «حماس» في هذا الشأن؛ حيث تمنع حركة حماس تجار غزة من تقديم فواتيرهم لوزارة المالية في رام الله، وبالتالي، فإن مئات الملايين من الدولارات ساهمت حماس بتحويلها لصالح عدوها الأول، وفضلت ذلك على أن تذهب هذه الأموال لصالح خصمها السياسي: السلطة الوطنية.
بعد عشر سنوات من حكم حماس لغزة، يمكن تقدير الرقم الحقيقي للأموال التي قدمتها حماس لإسرائيل.. وهو مبلغ خرافي..
وفي تصريح لوكالة «سوا» (17-1-2017) قالت «شفيقة القواسمي» مساعدة المدير العام لشؤون ضريبة القيمة المضافة بوزارة المالية، إن هناك 20 مليون شيكل شهريا تذهب لصالح الاحتلال، بسبب منع حركة حماس تسليم فواتير المقاصة من قطاع غزة إلى وزارة المالية برام الله». وفي تقرير نُشر على «حياة وسوق» (2014)، قال مدير عام الجمارك والمكوس في وزارة المالية لؤي حنش: قبل العام 2006، كانت غزة تشكل 30% من الاستيراد والشراء من إسرائيل، لكنها اليوم تشكل كحد أقصى 7%، وهنا فقط الحديث عن ضريبة القيمة المضافة والجمارك.
شهدت تايلاند في السنوات العشر الماضية فوضى وجرائم قتل واعتداءات عنيفة بين الجماعات السياسية المتصارعة، ورغم ذلك، لم يُصب أجنبي واحد بسوء، حيث حرص الجميع رغم خلافاتهم على سمعة بلدهم السياحية.. كما قرأتُ في تقرير من مصدر موثوق أنه في اليابان، يمتنع «النشالون» عن سرقة الأجانب في الأماكن المزدحمة حفاظا على سمعة بلدهم. هذان المثالان فقط لمن أراد أن يفهم، ويرى صورتنا على حقيقتها.