هل حان الوقت للتشكيك بالفرضيات الأساسية؟ وأن تغلق محكمة العدل العليا أبوابها أمام دعاوى الفلسطينيين أصحاب الاراضي في الضفة الغربية، لأن ضرر القرارات أكبر من فائدتها؟
لا توجد لاسرائيل سيادة في الضفة الغربية بالمعنى الموجود في المواثيق الدولية، ولا يسري القانون الاسرائيلي عليها. ورغم ذلك أقامت اسرائيل في الضفة الغربية مئات الوحدات السكنية التي يعيش فيها 400 ألف مستوطن (باستثناء شرقي القدس).
لقد فتحت محكمة العدل العليا منذ العام 1967 أبوابها أمام الفلسطينيين، من اجل الدفاع عن أراضيهم في وجه المستوطنين ايضا. وهذا القرار لا ينبع من قانون معين، بل من سياسة. وقد تكون هذه السياسة تنبع من السعي ليكون الاحتلال «متنورا». لقد قلصت هذه السياسة الحاق الضرر بالفلسطينيين، حيث تضاءل تقديم الدعاوى والتوجه الى المحكمة ضد استخدام القوة المبالغ فيها، وساهمت في الحفاظ على حقوق الفلسطينيين.
ضاءلت الرقابة القضائية من صورة اسرائيل كدولة محتلة. والمستوطنات حسب محكمة الجنايات الدولية في لاهاي هي غير قانونية. وهذا ايضا هو موقف اغلبية دول العالم. لقد قالت محكمة العدل العليا إنها لن تحسم في موضوع قانونية المستوطنات. لأن هذا موضوع سياسي والحكومة هي التي تقرر بشأنه. إن المستوطنات، حسب رأي محكمة العدل العليا، مؤقتة الى أن يتحقق السلام مع الفلسطينيين. ولكن فيما يتعلق بالبؤر الاستيطانية، جاء أن البؤر التي ناقشتها المحكمة (ميغرون وعمونا) هي بؤر غير قانونية حسب القانون الاسرائيلي الداخلي. ولم يتم التطرق الى شرعيتها حسب القانون الدولي.
إن صمت محكمة العدل العليا حول المستوطنات وموقفها من البؤر الاستيطانية تخلق الانطباع وكأن المستوطنات يوجد لها غطاء قانوني، بالمقارنة مع البؤر الاستيطانية غير القانونية. والحقيقة هي أن محكمة العدل العليا أرادت إبعاد نفسها عن السياسة، وكانت على استعداد لدفع الثمن بالعملة الصعبة من سلطة القانون: التغاضي عن عدم شرعية المستوطنات. هكذا أيضا أقيمت المستوطنات، وهكذا اضطرت محكمة العدل العليا الى الدخول الى السياسة، التي يتم الطلب بحسمها في موضوع اخلاء البؤر الاستيطانية. وقد تحولت المحكمة العليا خلافا لمصالحها، الى لاعب في الملعب السياسي.
حوالي نصف البؤر الاستيطانية أقيمت على اراضي فلسطينية خاصة. ولأنه منذ العام 1979 تم منع الاستيلاء على الاراضي الفلسطينية، لا سيما من اجل بناء المستوطنات لأن هذا يناقض القانون الدولي، فمن المتوقع أن تكون هناك دعاوى لاخلاء البؤر الاستيطانية. ثمة عدد كبير من المواطنين لا يميزون بين قرار اخلاء بؤرة بسبب عدم شرعيتها وبين القرار السياسي للاخلاء. وفي الحالتين فان من يقرر الاخلاء يُصنف تصنيفا سياسيا. ولأن محكمة العدل العليا هي الجهة الوحيدة التي أمرت باخلاء البؤر الاستيطانية على مدى العشرين سنة الماضية (باستثناء الانفصال)، فان الجمهور يعتبرها جسما سياسيا. وهذا عامل يضائل مكانتها، ويتم استغلاله من قبل السياسيين من اجل اضعاف المحكمة في شؤون أخرى.
عندما اضطرت محكمة العدل الدولية، لاعتبارات قانونية، الى اتخاذ قرار الاخلاء، وجدت أمامها حكومة تخشى على الائتلاف وتعارض الاخلاء ايديولوجيا وتلقي عليها مسؤولية الاخلاء. على مدى عامين والحكومة تتردد وتقوم بتأجيل الاخلاء مرة تلو الاخرى، وتهدد بأنها اذا لم تحظ بالتمديد، فان محكمة العدل العليا هي التي ستتحمل المسؤولية عن العنف (اذا عارض المستوطنون ذلك بالقوة). وفي نهاية المطاف تقوم المحكمة بالتفاوض على شروط الاخلاء مع من سمتهم بالأمس «مخالفي القانون». والنتيجة هي التعدي على القانون والمحكمة، والتصادم المباشر بين محكمة العدل العليا وبين الحكومة، ومحاولة السياسيين استبدال القضاة بمن يناسبونهم. وماذا عن المستوطنين؟ سيحصلون على اخلاء بشروط «ديلوكس». فالدولة ستبنى لهم المنازل وتدفع لهم التعويض بسبب اخلائهم من الكرفانات التي وضعت على اراض خاصة سلبت من الفلسطينيين.
في أساس القرار القضائي بأنه يمكن استخدام الارض من اجل المستوطنة، جاء أن الاستخدام هو مؤقت. واذا تم طرد ادعاء أن الارض صودرت بشكل دائم، فان شرعية المستوطنة تلغى. في قضية ألون موريه كتب رئيس محكمة العدل العليا، موشيه لنداو: «ليس من حق الحكم العسكري فرض حقائق على الارض... لأننا لا نعرف بعد ماذا سيكون مصير الارض بعد انتهاء الحكم العسكري».
يبدو أنه بعد مرور خمسين سنة تلاشى موضوع السيطرة المؤقتة على الارض، الأمر الذي يعني أن مصادرة الاراضي من اجل بناء المستوطنات ليست قانونية. الجدل لم يعد يدور حول ميثاق جنيف، بل حول المعيار الذي وضعته محكمة العدل العليا. بعد خمسين سنة يصعب القول إن السيطرة على الارض هي «مؤقتة».
لو تم قبول رأيي، لكان يفترض أن تغلق محكمة العدل العليا أبوابها أمام الدعاوى من أجل الدفاع عن الاراضي. فقد تصرفت على مسؤوليتها، نظرا لأن القانون الدولي سمح بذلك. وفي الوقت الحالي بعد مرور خمسين سنة لم يعد القانون الدولي يسمح بذلك. وأي تفسير آخر هو غير منطقي. محكمة العدل العليا ستقول إن القانون الدولي لا يسمح لها بمواصلة نقاش الدعاوى حول اراضي الفلسطينيين التي تعتبر السيطرة عليها غير قانونية. وسيكون الموضوع مطروحا في الساحة السياسية.
هذه نتيجة صعبة للفلسطينيين وللاسرائيليين، ولكن أصلا رقابة محكمة العدل العليا على الحاق الضرر بممتلكات الفلسطينيين تقريبا لا تمنع هذا الضرر. محكمة العدل العليا ناقشت فقط الدعاوى القليلة التي أمامها والتي تم تأجيلها لسنوات خشية من التأثير السياسي. إن استمرار رقابة القضاء ينشئ التصور حول التخفيف من نتائج الاحتلال ومنح المظلة القانونية «لمشروع» الاستيطان. إن استمرار النقاش في هذه الدعاوى يعرض الديمقراطية الاسرائيلية والمحكمة الى خطر التسييس وفقدان ثقة الجمهور من قبل من يؤيدون المستوطنات ومن يعارضونها ايضا. لذلك يجب على محكمة العدل العليا إبعاد نفسها عن هذه الدعاوى.