ثمة ضرورة للتفكير والتغيير في النهج العام للسياسة الفلسطينية المحكومة حتى الآن ومنذ سنوات طويلة إلى مبدأ رد الفعل، مع كثير من التردد مدفوع الثمن، ينطوي هذا المنهج في التفكير السياسي على مضاعفة الثمن المدفوع وسببه غياب المؤسسة والمأسسة، إذ لا تحظى مؤسسات التفكير الاستراتيجي بأية أهمية.
إن الاعتماد على الاستشارات الفردية مهما تمتعت بعمق وطول التجربة، لا يمكن أن يشكل بديلاً عن الاستثمار الجماعي المؤسسي للعقول من النخب الأكاديمية، والسياسية، وأصحاب الخبرة. يؤسس غياب الاعتماد على مأسسة التفكير إلى الانتظارية، وخطاب الشكوى والصراخ، والتهديد فقط، بدون أي ضمان لتنفيذ هذه التهديدات بالطريقة وفي الوقت المناسبين.
إسرائيل التي تعتمد المأسسة، والمبادرة في الفعل، والتخطيط الاستراتيجي، لا تتوقف عن المبادرة ثم امتصاص ردات الفعل الثانوية أو حتى المهمة إذا جاءت القراءات للعوامل الموضوعية مخالفة.. منذ أن جرى تنصيب الرئيس دونالد ترامب، كثفت إسرائيل الإعلان عن بناء وحدات استيطانية جديدة.
خلال عشرة أيام صادقت الحكومة الإسرائيلية على بناء أكثر من خمسة آلاف وحدة سكنية في الضفة الغربية أساساً وفي القدس، وتقوم بالتحضير لشرعنة المستوطنات خلال فترة قريبة. السلوك الإسرائيلي لا ينبع من خلفية رد الفعل على قرار مجلس الأمن رقم 2334، وإنما ينطوي على كل الفعل المتحدي لذلك القرار وللإرادة الدولية، التي تفيد قراءتها بأن الولايات المتحدة بإدارتها الجديدة، قد خرجت عنها المندوبة الجديدة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة أعلنت بصراحة أنها لن تسمح بتمرير أي قرار في الأمم المتحدة معاد لإسرائيل.
وإذا ربطنا ذلك بتصريحات لترامب لا يرى من خلالها أن الاستيطان يشكل عقبةً أمام عملية السلام، فإن السلوك الإسرائيلي يصبح مفهوماً. السلوك الإسرائيلي يستمد وقاحته أولاً من طبيعة الدولة العنصرية، التوسعية، وثانياً من ضمان عودة الحماية الأميركية الكاملة والتبني الكامل للسياسات الإسرائيلية.
وإذا أضفنا إلى ذلك تصريحاته بشأن نقل سفارة بلاده إلى القدس بغض النظر عن الصيغة، فإن ذلك يعني للجاهل قبل المتعلم والإنسان النائم قبل اليقظ، أن ترامب يتبنى بالكامل السياسات والأهداف الإسرائيلية التوسعية، وأن الحديث عن رؤية الدولتين وتكليف مبعوث لمتابعة عملية السلام إنما هو هراء.
قد تكون مهمة صهر الرئيس كوشنير، المكلف متابعة عملية السلام، المساعدة على استنزاف الوقت بالنسبة للطرف الفلسطيني، وإخضاعه لضغوطات شديدة حتى يقبل بالإملاءات الإسرائيلية كما يراها اليمين العنصري المتطرف.
ثمة إدارة جديدة في البيت الأبيض، تأخذ طابع الانقلاب على السياسات السابقة للإدارات الأميركية السابقة، الأمر الذي يؤسس إلى انقلابات على المستوى الدولي. إذا كان من الصعب الحديث عن توقعات لمدى ونوع تلك الانقلابات فإن ثمة ما أصبح واضحاً من هذه الانقلابات.
أولها الانقلاب الخاص بالسياسة الأميركية تجاه ملف الصراع الفلسطيني والعربي - الإسرائيلي ومعالمه أصبحت أكثر من واضحة. ثانيها الانقلاب بشأن موضوع الهجرة وقد أصبح هذا الملف واضحاً بعد أن وقع الرئيس ترامب على القرار الذي اتخذ طابعاً جدياً جداً، حين أقال الرئيس وبسرعة القائمة بأعمال وزير العدل لرفضها تنفيذ حظر الهجرة.
وثالثها الموقف من إيران، وملف الاتفاق بينها وبين الدول العظمى بشأن الملف النووي. ثمة تحريض إسرائيلي وغير إسرائيلي لإدارة ترامب التي لا تنتظر من يشجعها على نسف ذلك الاتفاق، إذ إن ترامب نفسه عبر عن رفضه للاتفاق وقام بتمزيقه.
اليوم تقيم أميركا الدنيا ولا تقعدها في مواجهة التجربة الإيرانية لصاروخ باليستي، صحيح أنها قد لا تحصل على قرار من مجلس الأمن الدولي حيث لا ترى روسيا أن هذه التجربة مخالفة للاتفاق، إلا أن هناك حملة تعبئة دولية وتحريض ضد إيران.
إسرائيل صاحبة الحظوة عند الإدارة الأميركية الجديدة لن تتوقف عن احتمالية تمزيق الاتفاق بشأن ملف إيران النووي، وإنما ستواصل التحريض من أجل دفع الولايات المتحدة نحو استخدام القوة العسكرية، الأمر الذي إن حصل ومن غير المستبعد أن يحصل، سيدخل الإقليم كله في فوضى عارمة، وصراعات مديدة، وحالة من الإرباك.
والسؤال هنا هو: لماذا تتجمد السياسة الفلسطينية عند حدود مربع التهديد والشكوى فيما الأمور أكثر من واضحة والطرف الآخر يندفع نحو المزيد من المبادرات العدوانية والتوسعية التي تطيح إن لم يكن قد أطاحت برؤية الدولتين؟
الولايات المتحدة مرتبكة داخلياً إذ لم تتوقف الاحتجاجات والاعتراضات الشعبية، ومن قبل بعض صناع الرأي العام والنخب، حتى لم يعد مستبعداً أن يكون مصير ترامب مثل مصير كينيدي، وفق ما أشار إليه بعض الكتاب الأميركيين.
في أوروبا الحليف التاريخي للولايات المتحدة، تتحسب النخب والأحزاب والحركات الاجتماعية، وتسود السياسات العامة حالة من الحذر والارتباك تخوفاً من مقبل السياسات الأميركية. وفي بريطانيا الحليف الأوروبي الأول والشرعي لأميركا في حروبها وغزواتها على العراق وأفغانستان، جرى حتى الآن جمع مليون توقيع على عريضة تطالب الحكومة بعدم استقبال الرئيس الأميركي، الأمر الذي يفرض على البرلمان مناقشة الأمر.
لماذا يصمت الفلسطينيون والعرب، وما الذي ينتظرونه حتى يعبروا عن احتجاجاتهم ورفضهم للسياسة الأميركية، وحتى يحضروا أنفسهم للتحديات المقبلة، أم أنهم يستمرئون سياسة الانتظار، وعويل الضحية؟