قُدر عدد المشاركين في حفل تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في واشنطن العاصمة بنحو 160 ألف شخص؛ فيما قُدر عدد المشاركين في المسيرات الاحتجاجية ضده في اليوم التالي في واشنطن وحدها، بـ470 ألف شخص، مع مئات الآلاف في مدن أميركية أخرى، وحول العالم، وتحديداً في الغرب. وهذا ربما ما حدا بمراقبين وباحثين إلى البدء بالحديث عن حركة سموها "حركة مناهضة ترامب"، خصوصاً بوجود سياسيين أميركيين كبار بارزين يعلنون صراحة رفضهم سياسات ترامب. لكن هذا بحد ذاته، رغم قوته الممكنة، يفضح أزمة فكرية عالمية.
يعاني أصحاب الفكر الراديكالي والإصلاحي، على السواء، منذ نهاية الحرب الباردة، من عدم وجود بنى فكرية واضحة. وتغلب على التحركات الشعبية والمقاومة مصطلحات تعبر عن الرفض، أكثر مما تعبر عن وجود هدف معين. فعلى المستوى العالمي، أصبح لدينا حركة "مناهضة الرأسمالية" (Anti Capitalism)، التي ينظم المنخرطون فيها تظاهرات حافلة ضد مؤتمرات الدول الرأسمالية الكبرى، وضد تجمعات سنوية لرجال الأعمال، من مثل التظاهر على هامش قمم الدول الصناعية الثماني الكبرى، ومؤتمر دافوس (المنتدى الاقتصادي العالمي السنوي الذي يجمع رسميين ورجال أعمال)، أو اجتماعات منظمة التجارة العالمية، وغيرها. لكنّ المتظاهرين خليط من الاشتراكيين، والاشتراكيين السابقين، وأحزاب البيئة، والفوضويين. وحتى عربياً، انتشرت تعبيرات "الممانعة" و"مناهضة التطبيع" و"المقاطعة" و"مناهضة الصهيونية"؛ وهي جميعها تعبيرات وجماعات تعبر عن رفض شيء معين ومقاومته، أكثر مما تطرح برنامج عمل متكامل بأهداف سياسية. وكثيرا ما اتفق أعضاء هذه التجمعات على قواسم مشتركة تجمعهم ضد شيء ما، مع ترك كثير من النقاط الخلافية للمستقبل، والاكتفاء بالتوحد ضد "الآخر".
والناظر إلى المشاركين في احتجاجات واشنطن والولايات المتحدة، والتي باتت تعرف باسم "حركة مناهضة ترامب"، يرى فيها تيارات نسوية، وحركة الحقوق المدنية، وحركة لسكان أميركا الأصليين، وحركة "احتلال وول ستريت"، وحركات للأميركيين السود، وللمسلمين، وحركة ما يعرف باسم "المساواة الزواجية" التي تتبنى حرية الزواج من الجنس ذاته، وغير هؤلاء كثر؛ ممن يصعب أن تجد ما يوحدهم حقا سوى رفض جزئي أو كلي لطروحات شخص مثل ترامب.
حاولت "النسوية" الأميركية أن تضع برنامجا لمطالبها ضد ترامب، وأن تقود هي الشارع لتسير معها وخلفها باقي الجماعات. لكن من المشكوك أن يحدث هذا.
إذا نظرنا إلى العالم العربي، فإنّ سقوط الاتحاد السوفياتي، صاحبه انهيار في الرؤى الماركسية واليسارية، وفي التنظيمات التي تحمل هذا الفكر. وبينما بدا الإسلاميون بديلا يتقبله الشارع، في الثمانينيات والتسعينيات، فإنّهم فشلوا في تقديم رؤى وبرامج عملية، ثم انقسموا على أنفسهم، ثم انبثقت منهم أو باسمهم قوى إرهابية ("القاعدة" و"داعش")، وهذا أضعفهم بشكل إضافي، وأضعف أيضاً التوق لأيديولوجيا متكاملة للتغيير.
هناك شبه اتفاق عالمي على أنّ الأيديولوجيا تراجعت كثيرا في العالم. وحتى على مستوى الفكر الليبرالي، فإنّ مجيء ترامب شكل ضربة إضافية له، بتبني ليبرالية اقتصادية أقرب للتوحش داخلياً (على شكل خصخصة ووقف الخدمات الاجتماعية)، مقابل سياسات حماية اقتصادية وتجارية خارجيا (ما يسمى بـ"المركنتيلية القومية" المعادية لحرية التجارة)، ومقابل أيضاً سياسات محافظة اجتماعياً ضد الإجهاض وحقوق الإنسان، رغم سلوك شخصي فيه الكثير من الفضائح.
لعل الحديث عن أيديولوجيا عالمية جديدة أمر صعب جداً. لكن، من جهة، يمكن لبعض الحركات التي تعبر عن مواقف سياسية واقتصادية أن تنتقل من إطار المناهضة إلى بلورة برامج لكيفية حل القضايا التي تتعامل معها، وإلا فإنها تحكم على نفسها بأن تبقى في إطار رد الفعل. ويجب أن تتوقف عن الانطلاق من أنها تمثل حلاً شاملاً لمشكلات العالم، أو أن حل مشكلتها الخاصة يكفي ليكون هدفا للنضال التام لأجله.
إلى ذلك، فإنّ التفكير باتفاقيات عالمية لحقوق الإنسان، وما يجب أن تكون عليه العلاقات الدولية والحضارية، ربما يكون البديل للأيديولوجيا، خصوصاً إذا كان فيها هامش لتقبل الحرية والرأي الآخر، وحرية الاختيار من قبل الأفراد والشعوب، في إطار التعايش والتقبل. وقد يتم ذلك في إطار الأمم المتحدة، ومنظماتها، التي يستهدفها ترامب أيضاً.
عن الغد الاردنية