كتب: أكرم عطا الله
من يعتقد أن دولة غزة ستعلن بمصافحة تاريخية بين السيد إسماعيل هنية قائد حماس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فهو لا يعرف كيف تدار السياسة الإسرائيلية، وكيف تعمل دولة إسرائيل عندما تقود مشاريعها، ويجهل الدهاء الإسرائيلي، ولا يقرأ الواقع السياسي للصراع الدائر وأدواته بين جهتين، الأولى تجند عقولها ومراكز دراساتها وتخطط وتنفذ بهدوء، والأخرى تملك إرادة ولكنها غير قادرة على استثمارها، والحرب الأخيرة كانت نموذجاً، حيث الإنجاز لم يكن يتناسب مع الأداء على الأرض.
إسرائيل لا تقول ذلك، ولم تعلن حتى اللحظة أنها تدير مفاوضات غير مباشرة مع حركة حماس على نمط دردشات وبدايات جس نبض، لكن الحقيقة أن هناك وفوداً تتزاحم في الطريق بين غزة وتل أبيب، وأن الهواتف الساخنة لم تتوقف عن الرنين في الكثير من العواصم والمدن، وليس أقلها أنقرة والدوحة وعواصم أخرى أكثر أهمية، ورام الله أيضاً في وسط الحدث لأن كل الوفود التي تزور غزة تسلم نتائجها هناك.
في رام الله شعور مزدوج تجاه المفاوضات الجارية، فمن جهة تعتبرها «المقاطعة» الوسيلة الوحيدة «لعقلنة « حركة حماس، واستدراجها نحو برنامج قريب من برنامج حركة فتح، حيث المفاوضات هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق إنجازات حياتية وسياسية وسيادية وليس الكفاح المسلح، وهي من جهة أخرى غاضبة؛ لأن حماس تأخذ مكانها ومكانتها في المفاوضات التي لن تكون نتيجتها في صالح «المقاطعة»، بل ستنتهي بتمكين حركة حماس في غزة « للأبد»، وهذا ينتهي بفصل غزة ككيان مستقل، وليس الاسم مهماً هنا، دولة غزة أو غيرها، فإذا كان ما يجري هو عملية تطبيع لحركة حماس لصالح البرنامج السياسي للسلطة، فإن النتيجة هي بالقطع ليست في صالح السلطة وبرنامجها.
أغلب الظن أن حركة حماس لن تأبه باتهامات قاضي القضاة التي أطلقها، أول أمس في خطبة الجمعة، ولا بمطالبات الجبهة الشعبية وباقي القوى بتسليم ملف المفاوضات لمنظمة التحرير، والتي لن تحقق شيئاً بالنسبة لغزة؛ لأنها لن تقبل بالتفاوض على غزة وحدها.
أغلب الظن أن حماس ستمضي في تلك المفاوضات لسببين، الأول أن الحركة غارقة في سلسلة من الأزمات، وتبحث عن حبل النجاة، وتعتبر أن هذه المفاوضات هي حبل النجاة الوحيد القادر على وضعها على شاطئ الأمان؛ إذا ما انتهت بإنشاء ميناء ومطار يسمح لها بالاتصال بالعالم وتنمية اقتصاد، وبجباية ضرائب، وفي هذا حل لأزمات غزة وللحركة نفسها، وهكذا تصبح غزة كياناً بذاته، سموه ما شئتم، والثاني أن حركة حماس تعتبر ومعها كل حركة الإخوان المسلمين بالعالم، أن غزة آخر قلعة من قلاع الإخوان بعد أن سقطت في تونس والقاهرة، وإذا ما فشلت في غزة فذلك يعني إسدال الشعار على مشروع الإخوان، وإذا لم يكن بالإمكان إنجاحه وتثبيته في القاهرة والدفاع عنه، وإذا لم يكن بالإمكان سوى الاستسلام أمام نتائج الانتخابات التونسية، لا زال هناك متسع لإنجاحه في غزة، وها هو الإسرائيلي يفاوض ويرسل الوفود، والنتيجة هي استمرار وتعزيز تجربة الإخوان هنا لذا فحين يرى الآخرون أن تلك المفاوضات هي الحبل الذي سينخنق المشروع الوطني تراه حماس حبل النجاة، وهنا الأزمة.
لكن ما يجب أن نراه بوضوح، أن الرأي العام، خصوصاً في غزة، وبعد أن وصلت الأزمة الإنسانية إلى حدها الأقصى، وبعد حالة الموت السريري الذي يعيشها، وربما أن ذلك جزء من تهيئة الإسرائيلي للظروف لفصل غزة بحصار وثلاثة حروب، أصبح أيضاً يتوق للخلاص الإنساني غير مبالٍ تجاه الوطني، ليس منزعجاً مما يجري بل مؤيد له.
وهناك استطلاع منشور على وكالة سما الإخبارية يظهر من العينة المصوتة، والتي بلغت 739، وهي عينة قليلة ومحددة، أن 78% من المصوتين أجابوا بنعم، رداً على سؤال: هل تؤيد هدنة طويلة بين حماس وإسرائيل مقابل رفع الحصار وميناء ومطار؟
وهنا الأزمة الأكبر حيث انقسام القوى الفلسطينية سياسياً، بما يمكن إسرائيل من تمرير ما فشلت به منذ أوسلو، وهو إقامة الكيانية الفلسطينية في غزة، تطبيقاً لتوصيات مراكز الأمن القومي، ولكن ياسر عرفات خرج عن الخط وامتد إلى الضفة فقتلته، فقد كانت غزة ميدان أوسلو، والتخلص منها كان هدف كل الاتفاقيات التي وقعت حينه، وكانت أريحا مجرد زائر للتغطية على المشروع، ومن تابع كيف تفكر إسرائيل وأدبياتها السياسية ومؤتمراتها ومراكز دراساتها، لا يحتاج إلى الكثير من العناء ليدرك أن مشروع فصل غزة هو هدف إسرائيلي قديم وضع منتصف ثمانينات القرن الماضي، وإذا جرت المحاولة الأولى بشكل صاخب في البيت الأبيض وفشلت يتم تغيير الشكل والإخراج بصوت خافت، وبلا مصافحة تاريخية ولا احتفال، وإن كانت المقدمات تتشابه، حيث جرى خنق المنظمة مالياً قبيل أوسلو، ما جعلها تزحف على بطنها، يجري خنق حماس، وأيضاً تتشابه النتائج ليبدو أننا أمام أوسلو.
هل هناك اتفاق جمعي على ذلك، بالقطع لا، وخاصة بعد تشكل حكومة اليمين الأكثر تطرفاً في التاريخ الإسرائيلي، والتي تمهد بإقامتها الطريق نحو مجلس الأمن والدولة الفلسطينية، ومشروع فلسطيني أبعد من غزة، ولكن هل تحل القضايا من بعيد؟ هل يمكن إجهاض مشروع غزة بالاتهامات؟ بالتأكيد لا، فالافتراق السياسي كبير، وبدأ يأخذ منحنى أكثر خطورة، ما يستدعي الخروج من حوار الطرشان المغلق بين الفلسطينيين نحو حوار يمكن من وأد مشاريع إسرائيل، ويمكن من صياغة سياسة فلسطينية قادرة على المواجهة، وهذا لا يتم إلا بالتفاهم وليس بالزيارات وتبادل الاتهامات.
الخطر كبير وما يطل في الأفق ينذر بتأبيد الانقسام وضياع الهدف الجمعي للفلسطينيين بإقامة الدولة على حدود 67، وفق ما جاء في وثيقة الوفاق. ينبغي معرفة ما الذي تريده حماس بالضبط إذا كانت القصة تتعلق بالموظفين، ويجب معالجة الأمر وإجراء الانتخابات ووقف المفاوضات، إلا على تبادل الأسرى، وبهذا يقطع الطريق على المخطط الإسرائيلي، وحتى لا نكون جميعنا شهوداً على تكريس الانفصال.