أثار مشروع قرار شرعنة البؤر الاستيطانية الذي أقره كنسيت العدو مؤخراً موجة من ردود الفعل الغاضبة. ومن شأن المشروع، إذا تحول إلى قانون، أن يضفي شرعية دولة الكيان على نحو 4000 منزل استيطاني خارج "الكتل الاستيطانية"، وأن يعطي المستوطنين يداً طليقة في استعمار الضفة والقدس على هواهم. وجاء مشروع القرار رداً على إخلاء بؤرة عمونا الاستيطانية بأمر من محكمة للكيان.
مع أن الغضب من مشروع القانون مبرر، فإنه يجعل الأمر يبدو وكأنه يأتي بالكثير من الجديد في مسيرة الاحتلال. لكن الحقيقة هي أن البؤر الاستيطانية كانت موجودة على الأرض من دون قانون، ولم تمنع سلطات الاحتلال بناءها على الأراضي الفلسطينية، بل زودتها فوراً بالماء والكهرباء والمدارس. كما أن ما تدعى "الكتل الاستيطانية" الهائلة التي يقطنها مئات الآلاف من المستوطنين الغاصبين تُبنى وتُوسّع بلا توقف برعاية حكومات الكيان على الأراضي الفلسطينية، بالرغم من انتهاكها الذي لا جدال فيه للقانون الدولي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ما تدعى "دولة إسرائيل" كلها تقوم على الأرض الفلسطينية، وتشكل مستوطنة كبيرة للغزاة على حساب أصحاب البلد الموزعين في المخيمات والمنافي والمعتقلات والقبور.
الذي جعل شرعنة البؤر الاستيطانية موضوعاً كبيراً إلى هذا الحد، هو تجنِّي مُجتهدين من الفلسطينيين على سردهم الوطني وتقويضه باستمرار بحيث ضيّعت التفاصيل القضية الأساسية. الآن، تهدد السلطة الفلسطينية مرة أخرى بوقف التعاون الأمني مع الاحتلال، وحمل قضية شرعنة البؤر إلى محكمة الجنايات الدولية إذا أُقر القانون. وتعني الخطوة أن وجود هذه البؤر أصلاً بمباركة دولة الكيان، وبناء الكتل الاستيطانية العملاقة تحت أنظار السلطة، لم يكن حدثاً حقيقياً يستدعي اتخاذ مثل هذه الخطوات سابقاً. وكأن عدم تنفيذ بند أوسلو الخاص بإقامة الدولة الفلسطينية، الذي استحق منذ وقت طويل، وكل ما يحدث من مصادرة وإذلال واعتقال وتنصّل من أي التزام قانوني أو أخلاقي، لم يكن يستدعي فضّ الشراكة الغادرة مع الاحتلال الغادر! وكأن احتلال فلسطين كلها وحرمان أهلها من حق العودة إلى ديارهم لم تعد قضية الفلسطينيين الأصلية ولا تجعل العدو عدواً!
لا يتعب المراقبون من كل الجنسيات من التذكير بحقيقة أن الضفة الغربية محتلة الآن كما كانت دائماً منذ العام 67. وأن غزة محتلة أيضاً مثلما هي غرفة مغلقة الأبواب والنوافذ على مَن فيها في بيت مُحتل جميعاً. وأن "حل الدولتين" مات بسبب "الحقائق على الأرض". لكن أوسلو ووجود السلطة على الاحتلال يعتِّمان هذه الحقائق، ويتيحان للعدو الزعم بأنه يستوطن في أراضٍ متنازعٍ عليها وليست محتلة. ويسمحان له ببناء المستوطنات وتوسيعها على أراضي الفلسطينيين المسروقة، على أساس أن هناك مفاوضات تجري مع "حكومة" نظيرة، والتي ستنتهي بضم المستوطنات الكبيرة–وربما البؤر الآن-إلى الكيان و"لا تقف عقبة في طريق السلام". وبذلك، يصر معسكر التفاوض الفلسطيني الذي يتنازل عن مطالب شعبه بلا توقف، على الحيلولة دون تسمية الأشياء بأسمائها، بحيث يقال عن الاحتلال إنه احتلال، وأن "السلطة" ليست سلطة إلا بقدر ما "تتعاون" مع الاحتلال.
الذي التقط الفكرة ببراعة هو الكاتب والصحفي الذي يكتب عن فلسطين بحرقة أكثر من بعض أهلها، جوناثان كوك. وكتب كوك عن قانون شرعنة المستوطنات: "يمكن أن يكون هناك نوع من الجانب المشرق في قانون شرعنة المستوطنات. ففي الممارسة، لم يكن هناك أبداً أي قيد جديّ على سرقة الأراضي الفلسطينية. ولكن دعم الحكومة الإسرائيلية لنهب الأرض سوف يصبح الآن صريحاً وواضحاً ومنصوصاً عليه في القانون. سوف يكون من المستحيل بعد ذلك إلقاء اللوم في البؤر الاستيطانية على مستوطنين "مارقين"، أو الزعم بأن إسرائيل تحاول حماية حقوق الملكية الفلسطينية".
بذلك، سيقوم القانون الجديد فقط بتسمية الأشياء باسمها ويعرضها بحقيقتها. ولا شك أن تعرية حقيقة كيان الاحتلال هي "جانب مشرق". وإذا كان هناك طرف معنيٌّ بعرض كامل حقيقة الاحتلال بحيث يجترح من العتمة السادرة جوانب مشرقة، فهو القيادة الفلسطينية التي ينبغي أن تكون الأوفى لصيانة سرد شعبها الوطني الأصلي والصادق كإيمان مُطلق. وأضعف الإيمان أن تكف عن العمل كورقة توت تخفي سوأة الاحتلال الذي سرق كل فلسطين، حتى تمكن تسميته باسمه.
عن الغد الأردنية