مجيدون، ومجددون .. وصعاليك. من هم؟ الشعراء بخاصة. شعراء معاصرون كبار يرون في شعراء مجيدين أنهم مجددون، ونقّاد شعر يرون في شعر الشعراء الصعاليك تجديداً.
لكل شاعر، قديم او معاصر، أن يخصّ بالإعجاب ما يريد من شعر شاعر، وهكذا كنت قرأت للشاعر احمد دحبور تأثره ببيتين من شعر الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي: «لا أكتفي وأخاف من قبل أن أكتفي / فكأنما في الاكتفاء حمامي»، أي موتي. كان صديقي غسان عبد الله سألني: هل الشاعر عمر ابو ريشة هو المعرّف بـ «شاعر الطلاسم»؟ السؤال جرّ إلى سؤال مني: هل هو القائل: «هل أنا يا بحر منكا» فقال: لا .. ومن ثم تذكّر وأهداني مجموعة مختارة من أجمل ما كتب شاعر «الطلاسم» إيليا ابو ماضي، من إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب» ١٩٩٦.
كانت بعض أبيات قصيدة الطلاسم مقرراً مدرسياً في مدارس سورية، وبالذات «قد سألت البحر يوما هل أنا يا بحر منكا؟ / هل صحيح ما رواه البعض عني وعنكا؟ / أم تُرى ما زعموا زوراً وبهتاناً وإفكا؟ / ضحكت أمواجه مني وقالت: لست أدري».
في نقاش مع وضاح زقطان، وهو تتلمذ في مدرسة أردنية، خلافي أنا ودحبور وغسان عبد الله الذين تتلمذوا في مدارس سورية، علمتُ أنهم في مدارس الأردن درسوا مقاطع أخرى من «قصيدة الطلاسم» ومنها: «جئت لا أعلم من أين، ولكني أتيتُ / ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت / وسأبقى ماشياً إن شئت هذا أم أبيت / كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري».
اشتهرت قصيدة الطلاسم / بعد أن غنى محمد عبد الوهاب مختارات منها.
لا أقل من ٦٨ مرة تتكرر عبارة «لست أدري»، أعترف أنني قرأتُ «الطلاسم» كاملة، بفضل اصدار العام ١٩٩٦ «مهرجان القراءة للجميع»، فوجدتُ، كما الشاعر احمد دحبور، ما يعجبني منها، وبالذات تساؤله: «كم كياناً قد تلاشى في كياني واستحال / كم كيانا فيه شيء من كياني؟ لست أدري».
لا أظن أن بعض مقتطفات «الطلاسم» وجدت سبيلها الى المناهج المدرسية، أو في ما انشد محمد عبد الوهاب، وبخاصة نقده لرجال الدين: «إنني أشهد في نفسي صراعاً وعراكا / وأرى ذاتي شيطاناً وأحياناً ملاكا / هل أنا شخصان يأبى هذا مع ذاك اشتراكا / أم تراني واهماً فيما أراه؟ / لست أدري».
إيليا ابو ماضي ١٨٩١ - ١٩٥٧ ينتمي الى حركة التجديد الكبيرة في الأدب العربي، وما من شك ان معظم الأدب والشعر المهجري أضاف جديداً للأدب والشعر العربي، كما هو حال الأدب والشعر الأندلسي العذب والرقيق، حتى قالت ولادة بنت الخليفة المستكفي: «إني والله خُلقت للمعالي / أمشي مشيتي وأتيه تيها / أمكّن عاشقي من لثم خدّي / وأعطي قبلتي من يشتهيها» رداً على تغزل الوزير والشاعر ابن زيدون بها.
كان ابو العلاء المعرّي شكاكاً، وكان المتنبي حداثياً لأنه قال: «على قلق كأن الريح تحتي»، لكن «الرابطة القلمية» لشعراء المهجر (جبران خليل جبران من أبرزهم) أضافت جديداً للأدب والشعر العربي، لأن الشعراء والأدباء انتقلوا من الوطن الى وطن جديد في «العالم الجديد» كما الأدب والشعر الأندلسي نتيجة انتقال العرب من بيئة صحراوية عموماً الى بيئة جديدة في أوروبا.
هذا لا يعني أن الشعراء المهجريين لم يتطرقوا في شعرهم الى قضايا بلادهم ووطنهم الأم، فهناك في مختارات إيليا أبو ماضي قصيدة معنونة «فلسطين» .. ولكن لا جديد ولا تجديد فيها شكلاً ومضموناً.
ايضاً، هناك شاعر مهجري عروبي هو «الشاعر القروي» رشيد سليم الخوري، الذي عاد من مهجره الى وطنه سورية، اول قيام الجمهورية العربية المتحدة، ومدح فيها العروبة الجديدة كما يراها في نواة الوحدة العربية، وجمال عبد الناصر، والقى شعره في مديحها في مدرج كرة القدم بدمشق، كما فعل محمود درويش في زمن آخر، وشعر آخر، ومرحلة عربية وفلسطينية أخرى.
باستثناء «الغزل» فإن معظم مواضيع الشعر العربي القديم قد تغيّرت، معنى ومبنى، وأبرزها كان: الوقوف على الأطلال، والفخر، والهجاء، والنسيب .. وحتى المديح لم يعد كما كان.
«ولذا أزداد بُعداً كلما ازددت اقترابا / وأراني كلما أوشكت أدري .. / لست أدري»!