عتبة جنيف

thumb
حجم الخط

 

 

مفاوضات جنيف 4 التي انطلقت أمس برعاية الأمم المتحدة، يبدو أنها تسير على قاعدة «خالف تعرف»، كما هو حال مجمل المفاوضات والاجتماعات التي لفت مسيرة المسار السياسي منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011.
كان يفترض بمفاوضات جنيف أن تعقد في الثامن من شباط هذا الشهر، غير أن مسار أستانة السياسي الذي خصصته روسيا وحلفاؤها للتركيز حول تثبيت وقف إطلاق النار، هذا المسار دفع بمفاوضات جنيف للتأجيل، ارتباطاً بنتائج اجتماعات أستانة 1 و2.
المفاوضات الحالية ليست سوى عتبة من عتبات التدرج في سلم المسار السياسي، ذلك أن المبعوث الدولي الخاص إلى سورية ستيفان دي مستورا لم يبد حماسته لهذه العملية التفاوضية، وهو الذي يدرك تماماً حجم التحديات وكبر الخلافات التي لم تضيق إلى الآن بين أطراف النزاع السوري.
يراهن دي مستورا كثيراً على موضوع تثبيت وقف إطلاق النار، على اعتبار أن نجاح هذا الموضوع سيمهد لفتح الطريق أمام سكة مسار جنيف، وهذا الأمر دفع بالقيادة الروسية للطلب من النظام السوري وقف القصف الجوي في المناطق التي يشملها النزاع.
روسيا التي طلبت من سورية وقف القصف الجوي، أرادت من ذلك سحب الذرائع أمام وفد المعارضة السورية إلى جنيف، من أجل موافقته على المشاركة في هذه المفاوضات، لكن موسكو لديها مخطط يستهدف إيجاد حليف مناسب في صفوف المعارضة السورية تراه قادراً على خدمتها في أي مفاوضات مرتقبة.
المعنى من ذلك أن روسيا سعت بعد دعم القوات الحكومية السورية ومنع سقوطها، إلى تغيير قواعد اللعبة لجهة إيجاد شريك سوري معارض يقبل بفكرة وجود النظام السوري وعلى رأسه الرئيس بشار الأسد، ويبدو من هذه الخطوة أن روسيا تريد كسب العدو والصديق.
اجتماعات أستانة التي ولّدتها روسيا تصب في هذا الإطار، وعلى الأرجح أن هذين المسارين أستانة وجنيف، كل منهما مخصص للحديث عن موضوعات معينة، ولعل دي مستورا كشف عن ذلك حين قال إن مفاوضات جنيف تركز على موضوع الانتقال السياسي، بينما تركز أستانة على تثبيت وقف إطلاق النار ومسائل إجرائية أخرى.
مع ذلك فإن دي مستورا لا يعتقد أن مفاوضات جنيف 4 هي الخطوة الأخيرة أو حتى قبل الأخيرة لتسوية الأزمة السورية، فعدا عن التعاون والاتفاق الروسي- التركي للإعلان عن وقف لإطلاق النار أواخر العام الماضي، إلا أن هذا الموضوع لم ينجز.
المبعوث الدولي حسناً فعل حين قدم أستانة على مفاوضات جنيف، ذلك أنه يرغب من اجتماعات أستانة التمهيد للحديث في قضايا ساخنة، ذلك أن الأولوية القصوى بالنسبة لدى مستورا تتصل بتثبيت الهدنة وضمان سريانها، حتى يمكن الانتقال للمرحلة التي تليها.
على أن موضوع الهدنة سيبقى حاله هشاً كما هو حال الهدن التي سبقته، ولو أن هدنة روسيا- تركيا تعكس نوعاً من الاتفاق على ضرورة الاستراحة العسكرية لجهة إعادة توزيع قواعد اللعبة وكسب الأعداء قبل الأصدقاء.
عدا عن محاولات روسيا ضرب المعارضة من الداخل وإيجاد تلك المعارضة التي تناسب التطلعات الروسية للحل في سورية، فإن تركيا تضع قدماً في الأرض الروسية وأخرى في الأرض الأميركية، وهذا طبيعي بالنسبة لدولة مجاورة لسورية وتنظر إلى أمر النزاع من غريزة الدولة الإقليمية التي تبحث عن الاستفادة لتعزيز وجودها وحضورها الإقليمي في المشهد العالمي.
تركيا تنظر إلى الوجود الكردي في الشمال السوري على أنه أهم تهديد بالنسبة لها، كما تنظر إلى «داعش» على أنه خطر قد يهدد أمنها وسلامة أراضيها، ولذلك حين تقترح الولايات المتحدة الأميركية إقامة مناطق آمنة في سورية، فإن تركيا خير وأول من يرحب بمثل هذا الاقتراح.
ويبدو أن هناك خطاً مفتوحاً بين أنقرة وواشنطن لجهة إقامة مناطق آمنة في الشمال السوري، ذلك أن هذه المناطق ستضمن وقفاً لنزيف اللجوء السوري إلى تركيا، إلى جانب أن ذلك قد يعزز من التواجد التركي للتأكد من تنظيف الشمال السوري من أي تهديد كردي أو «داعشي».
على أن روسيا التي وقفت بحزم أمام وجود المناطق الآمنة، مستعدة لتقديم هذه الهدية لتركيا والولايات المتحدة في حال نسقت مع النظام السوري، وهو الأمر الذي تعتبره موسكو جيداً نحو فتح حوار دافئ يمهد للاعتراف بشرعية الرئيس الأسد وأهليته في استكمال منصبه ومسؤولياته.
أضف إلى ذلك أن روسيا لن تقدم على التسليم بأمر المناطق الآمنة دون أن يرتبط ذلك بتحقيق مصالح لها، مثل إيجاد آلية لتوسيع التحالف الدولي لضرب «داعش»، ذلك أن ما يهمها في الأراضي السورية إلى جانب تقوية النظام السوري وتمكينه في السلطة، القضاء على التنظيمات الإرهابية.
هناك ملفات كثيرة مفتوحة ولم تحل بعد، وفي مقدمتها ملف الهدنة الذي يعتبر أحد أهم الملفات التي خصصت لها اجتماعات للتركيز عليها، ثم إن تراجع الدور الأميركي وعدم تحديد الاستراتيجية المتبعة للتعامل مع الملف السوري، كل ذلك من شأنه أن يزيد من عتبات التفاوض.
هذه الجنيف الحالية واحدة من مفاوضات كثيرة، ولن تحقق تلك الفائدة المرجوة إذا ظلت أطراف النزاع كبيرها الدولي أو صغيرها المحلي تتغذى على الخلافات، غير أن ممكنات الحل مرتبطة بعاملين، الأول إما أن تحدد واشنطن ماذا تريد، هل تقبل بوجود الأسد في السلطة وتركز على التنظيمات الإرهابية ولا تدعم المعارضة، أم عكس ذلك؟
أما العامل الآخر فمرتبط بمدى قدرة المعارضة على الصمود في وجه القوات الحكومية السورية، مع العلم أن رقعتها الجغرافية انحسرت تدريجياً حتى وصلت إلى نسبة 12.5% من السيطرة الكاملة على الأراضي السورية، وهذه النسبة قد تتضاءل في ظل التغير في موازين القوى.
المؤشرات تقول إن الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية غير جاهزة بعد للتعامل مع الملف السوري على طريقة إنهائه، وهذا يعني أننا سنشهد حالة من التقدم في المسار السياسي ثم تراجع لصالح العسكري وهكذا دواليك، أقله إلى حين أن يحدث أي تغير في العاملين السالفين.
جنيف 4 تقدمت هذه المرة وفق متغيرات مختلفة عن محطة جنيف 3، وقد تكون جنيف 5 مقبلة على تغيرات كبرى، ذلك أن كل عتبة من جنيف ستقود في نهاية الأمر إلى إنهاء النزاع السوري بصرف النظر عن الطريقة، فكما يقول المثل «كل بداية لها نهاية».