كثيرة هي الدلائل التي تشير إلى أن وتيرة وأسلوب وأهداف التحرك على محور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مرشحة لأن تشهد تطورات كبيرة، وتغييرا جذريا خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، عما كان عليه الحال خلال السنوات الثلاث الماضية. ويمكن أن يكون لهذا التغيير امتدادات وتأثير على ما ستحمله الأيام لسنوات عديدة مقبلة. ولنا أن نتابع سيلا من المقترحات والخطط و»خرائط طريق»، ولقاءات سرية وعلنية، تكون كل منها دوائر حوار ومحادثات ومفاوضات بين وفود من كل حدب وصوب، لكن لجميع هذه الدوائر مركز واحد: قضية فلسطين.
هذا أمر طبيعي ومتوقع. فقضية فلسطين، كما نعرف، قضية دولية من الطراز الأول، نشأةً وتطورا، منذ تخليقها زمن نابليون بونابرت، ثم تبنيها من قبل الامبراطورية البريطانية، وصولا إلى إعلانها في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1896 في بازل في سويسرا، ولاحقا بذلك التمهيد البريطاني الفرنسي لها من خلال اتفاقية سايكس بيكو قبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى، ثم إعلانها صراحة كهدف في «وعد بلفور»، قبل مئة سنة بالتمام والكمال، ووضع برنامج عمل لتحقيقه، إلى ركوب التعاطف مع ضحايا الجرائم النازية، وخاصة يهود أوروبا، وإقامة دولة إسرائيل، ثم تمكينها من الحياة والنمو بدعم سياسي بريطاني، ودعم عسكري فرنسي، ودعم مالي الماني، إلى حين انتصارها المدوي في حرب حزيران/يونيو 1967، وانتهاء بضمان أمريكا لتفوقها وتحويلها إلى «دولة عظمى»، بمقاييس إقليمية، وحتى يومنا.
غني عن القول إن الحدث الدولي الأهم في العالم، في وقتنا الراهن، هو انتخاب دونالد ترامب رئيسا لأمريكا، بكل ما يحمله هذا التغيير من اختلاف ما كان عما سيكون. ومن هنا يأتي الترابط الذي لا فكاك له، بين الحدث الدولي الأهم، والقضية الدولية الأقدم: انتخاب ترامب، وقضية فلسطين.
كل تقليل من تبادل التأثر والتأثير بين الحدث والقضية، يحمل في طياته خطأً جوهرياً، يجدر بقيادة العمل الوطني الفلسطيني تجنبه: لتجنيب الشعب الفلسطيني مخاطر ممكنة، ويمكن لها أن تمدِّد وتعمق معاناته من الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، من جهة، ولمحاولة التعامل بحكمة وبشجاعة مع هذا التغير الجوهري في إدارة القوة الأكبر في العالم، على أمل تحقيق مكاسب للشعب الفلسطيني، من جهة ثانية.
وصل ترامب إلى سدة الحكم في أمريكا، حاملا قناعات راسخة بضرورة إحداث ثورة ضد العديد من أوضاع، وقواعد تعامل، ومسلّمات، باتت شبه بديهية، بين مكونات وطبقات المجتمع الأمريكي.
أخطر من ذلك، قناعات وقرارات وتوجهات ترامب لإحداث ثورة على الصعيد الدولي: في نوعية ونمط العلاقة، بين «الامبراطورية الأمريكية» وحلفائها وخصومها وأعدائها من دول العالم. كل ذلك يأتي به ترامب تحت يافطة عريضة، تقول إنه رجل فعل وليس رجل قول. إنه «رجل أعمال» يتقن فن عقد صفقات مع أصدقاء وحلفاء ومع معارضين ومنافسين، ومع أعداء تقليديين أيضا. تحكم تصرفاته معادلة الربح والخسارة، المنفعة والضرر، وليس القانون المحلي القائم، ولا قواعد التعامل الدولي، وفق الاتفاقيات الدولية، والشرعية الدولية وقراراتها، ممثلة بهيئة الأمم المتحدة، وما تفرع ويتفرع عنها من هيئات ومنظمات ومحاكم، ومتحررا، بفضل وضعه المالي، من إمكانية ابتزازه من قبل «مدمني» التبرع للمرشحين في كل انتخابات لكل موقع، وتحويل «منافع» التبرع من التزام للدافعين، لالتزام نحو «عجوز» بلغت من العمر سبعين سنة، وما زالت تتصرف كطفلة مدلَّلَة، وتستمتع أيضا بتعامل الإدارات الأمريكية معها كطفلة مدلوعة ومدلّلَة.
ترامب يهز، منذ توليه مقاليد الحكم، «قواعد اللعبة» في بلده أمريكا، بل ويسعى لنسف ثوابتها وأساساتها. وأثار على الصعيد الدولي، قضية التكاليف المادية للحلف العسكري الذي يجمعه مع غالبية دول أوروبا. ويتبنى سياسة تحميل الدول التي تستعين بالقوة العسكرية الأمريكية لحمايتها وحماية حدودها، ثمنا ماديا لهذه الحماية. وأكثر من ذلك أيضا: تحميل المكسيك تكاليف إقامة جدار على حدودها مع أمريكا، لمنع مواطنيها من الهجرة غير الشرعية إلى جارتها الشمالية. دون أن ننسى في هذا السياق، مطالبته باعإدة النظر في الاتفاقيات التجارية بين القارتين الأمريكيتين حول انسياب البضائع والمنتجات بين دولهما.
هذا عن الحلفاء والجيران، أما «العدو» التاريخي والتقليدي لأمريكا، الاتحاد السوفياتي سابقا، وروسيا الاتحادية حاليا، فيرى فيه ترامب، (وربما عدد كبير من أركان إدارته الرئيسيين)، غير ذلك، بل إنه يتبادل الغزل المعلن مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
أما على صعيد «العولمة»، وانفتاح الأسواق العالمية أمام البضائع الأمريكية، مقابل انفتاح أمريكا للبضائع من دول العالم، وخاصة من الصين، فإن ما يعلنه ترامب من سياسة على هذا الصعيد، هو أشبه ما يكون بانقلاب كامل عليه.
الأمر ذاته ينطبق على موضوع الانبعاثات التي تتسبب في «الانحباس الحراري» ورفع درجة حرارة كوكب الأرض، وما يشكله ذلك من تأثير، حسب علماء متخصصين بهذا الشأن، على مستقبل البشرية والحياة على هذا الكوكب.
هذه الجبهات المتعددة، التي يخوض ترامب معاركه فيها، والتي بادر هو إلى افتعال بعضها، ليست محسومة النتائج مسبقا. ولا دليل يؤكد أو يشير إلى أنها ستنتهي، جميعها على الأقل، لصالحه. لكن المؤكد حتى الآن، هو إنه ماض بها، بل وماض ربما في فتح جبهات جديدة. ويمكن التقدير، منطقيا، أن الأكثر تأثرا بها، هم الأشد ارتباطا بالإرادة الأمريكية، وبالإدارة الأمريكية.
حجم وقوة أمريكا في العالم يعني تأثر الجميع بكل ما يصدر من واشنطن من قرارات وأفعال ومواقف سياسية. ينطبق الأمر على الأمريكيين أنفسهم، كما ينطبق على مواطني الدول الأخرى. لكن قدرات كل واحد من المتأثرين بذلك على المناورة تختلف جذريا بين هؤلاء. فالمجتمع الأمريكي، بأحزابه السياسية، وقواه الاقتصادية، من صناعية وزراعية ومصرفية وغيرها، وصحافته وطبقاته وانتماءاته العرقية، إضافة إلى وضعه القانوني في أمريكا، يحتكمون لقوانين تتماشى مع الدستور الأمريكي. وهذا الاحتكام للدستور، وهو الملزِم والأكثر ثباتا من القوانين والقرارات الصادرة من البيت الأبيض ومن الكونغرس، يعطي لخصومه من الأمريكيين مساحة واسعة من القدرة على المواجهة والمناورة والرفض، بالتظاهر والاحتجاجات بكل أشكالها، وعلى حسم القضايا الخلافية باللجوء إلى القضاء، كما ثبت ذلك في موضوع التعامل مع قرار ترامب بخصوص مواطنين من سبع دول ذات أغلبية إسلامية.
ما ينطبق على المواطنين الأمريكيين، لا ينطبق على حكومات ودول العالم. وقدرة القانون الدولي والشرعية الدولية على الإلزام أضعف بما لا يقاس من الدستور والقانون الوطني، خاصة بالنسبة إلى من يستطيع أن يلجأ إلى قوته الذاتية.
من هنا فإن قدرة كل طرف دولي على الصمود والمواجهة والانتصار، أو، على الأقل، إحباط ما يسعى إليه ترامب وإدارته، يتوقف على قدرة هذا الطرف أو ذاك، في الحفاظ على قراره المستقل نسبيا، في عالم اليوم، الذي انتفى فيه «القرار المستقل» كاملا، بفعل الترابط والتداخل بين كل دول وشعوب العالم، والتعقيدات التي ترتبت على ذلك.
يمكن التاكيد في هذا السياق، إن إسرائيل هي الأكثر، أكرر: الأكثر تأثرا، من بين جميع دول العالم، بالقرار الأمريكي، لألف سبب وسبب، ولا حاجة لذكر أي منها هنا. ولما كنا نحن الطرف الثاني في معادلة الصراع الفلسطيني، فإننا ثاني الأكثر تأثرا بالقرار الأمريكي. هذه الحقيقة تجعل ضرورة مراقبة ومتابعة كل ما يدور في أروقة الإدارة الأمريكية، ومحاولة التأثير فيها، بالاستعانة بكل رافعة ممكنة، مسألة في غاية الأهمية.
يستدعي هذا تحركا فلسطينيا فوريا، وليس عاجلا فقط، لترتيب الأوضاع الفلسطينية الداخلية، وأكرر هنا مرة أخرى: «تحركا فوريا»، إذ لا ينوب أي ترتيب لأي تحالفات أو استعانات بروافع عربية أو إسلامية أو دولية، عن ترتيب وإعادة تماسك الجبهة الفلسطينية الداخلية، من منظمة التحرير وكل ما تفرع وانبثق عنها، تماسك الحركات والجبهات والفصائل والمستقلين…وفتح أولاً.
عن القدس العربي