دروس من تجربة جنوب إفريقيا

عبد الغني سلامة
حجم الخط

كان العام 1989 عام التحولات الدولية، الذي أسس لبداية نظام دولي جديد، في هذا العام اختير "دو كليرك" رئيساً لحكومة جنوب إفريقيا العنصرية.
وكانت حكومته آنذاك تئن تحت وطأة الضغوط الدولية؛ فبادر لاتخاذ بعض الإصلاحات السياسية، ورفع الحظر عن حزب "المؤتمر الوطني الإفريقي"، وأطلق سراح بعض السجناء السياسيين ومنهم "نيلسون مانديلا"، ثم شرع بحوار مع أحزاب المعارضة حول مستقبل البلاد.
وخلال سنتين اشتدت عليه الضغوط، فلم يكن أمامه مفر من إلغاء بعض قوانين الفصل العنصري، والإعلان عن نيته تكوين حكومة متعددة الأعراق، وعن حق جميع المواطنين في التصويت.
ولكن، وباعتراف مانديلا، لم يكن دو كليرك حتى ذلك التاريخ جادا وصادقا في نيته إلغاء نظام الفصل العنصري، بل كان براغماتيا، يماطل ويراوغ لكسب الوقت والتكيف مع الظروف الدولية والمحلية الجديدة، والالتفاف على الإرادة الشعبية.
وربما كان في ذهنه أن الإصلاحات التي يقوم بها ستكون كافية لتخفيف العقوبات الدولية المفروضة على حكومته، وكافية لإخراجها من عزلتها، فكان يحاول إيجاد مقترحات - اعتبرها تنازلات جوهرية - الهدف منها الخروج بأقل الخسائر، والاحتفاظ بالسلطة لأطول مدى ممكن، وإبقاؤها في أيدي الأفريكان تحت أي إدارة جديدة، ولم يكن مستعدا لإنهاء حكم البيض.
وعندما تعمقت عزلته، واشتدت العقوبات والضغوط الدولية على حكومته، اضطر دو كليرك للبدء بالمفاوضات، ولكن حكومته كانت تهيئ الظروف لاندلاع حرب أهلية بين السود، بغية تفتيت جبهة الخصوم، والحيلولة دون قيام دولة واحدة تحكمها الأغلبية، وذلك من خلال إظهار عجز السود عن إقامة دولة حديثة، وإبراز تخلفهم وتعطشهم للقتل، وسفكهم لدماء بعضهم البعض.
من أجل ذلك، سعت حكومته لإضعاف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وتشكيل حلف معادٍ له، فدعمت حزب "إنكاثا"، وساندت زعيمه "بوتيليزي" للاحتفاظ بقوة الزولو ومكتسباتهم، وإبراز هويتهم الإثنية في إطار نظام الحكم الاتحادي الفدرالي، كبديل عن الدولة الواحدة.
ومن الجدير بالذكر أن أغلبية أعضاء حزب "إنكاثا" من قبائل الزولو، أما "بوتيليزي"، فهو من أحفاد ملك الزولو العظيم، الذي كان رغم معارضته لنظام الفصل العنصري، يعارض النضال المسلح، ويرفض فكرة قيام دولة واحدة في جنوب إفريقيا، حتى إنه قاد حملة ضد العقوبات الدولية المفروضة على بريتوريا.
ومع مطلع العام 1990، بدأ مسلحو "إنكاثا" حربهم ضد المؤتمر الوطني الإفريقي، فأضرموا النيران في قرى كاملة، وقتلوا المئات وشردوا الآلاف، وتكررت التفجيرات والمذابح الجماعية، وصارت البلاد بأسرها على شفير حرب أهلية.
وقد تجاوز عدد الضحايا في ذلك العام ألفين وخمسمائة قتيل، ولم تجدِ توسلات ومناشدات مانديلا للجماهير الغاضبة وقف الاقتتال، فكان واضحا أن "إنكاثا" ماضٍ في حربه دون رحمة، وأن هذه الحرب وأعمال التخريب كانت تتصاعد كلما اقتربت الحكومة وحزب المؤتمر من التوصل لاتفاق.
وكانت كل هذه الأعمال تحدث على مرأى ومسمع الشرطة، دون أن تتدخل، بل تبين أن الأسلحة التي كان يستخدمها مقاتلو "إنكاثا" أعطيت لهم من قِبَل السلطات، وأن الشرطة ومتطرفين من الحزب الحاكم كانوا يمولون "إنكاثا" سراً. حتى أن الحكومة أصدرت قانونا يسمح للزولو بحمل ما يسمى "أسلحة تقليدية" في الاجتماعات العامة، وهذه الأسلحة هي الرماح والعصي والحراب، وهي نفسها التي كان يقتل بها أنصار "إنكاثا" ضحاياهم.
وفي تلك الأجواء الساخنة تدهورت أوضاع البلاد إلى مستوى خطير، وكاد حلم السود بالحرية ينتهي، وكان المتعصبون من الحزب الحاكم ومن الزولو يفضلون أن تنحدر البلاد بأسرها نحو حرب أهلية على أن تنتقل السلطة ليد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بالوسائل السلمية.
وبالرغم من كل تلك الأعمال المروعة، ومن عدد الضحايا المرتفع، ومن حملة الانتقادات الداخلية العنيفة، إلا أن مانديلا رفض الانجرار إلى الحرب، ومنع أنصاره من الرد، وظل محتفظا باستراتيجية المفاوضات والسلام، إلى أن انتصر وحقق حلم شعبه بالحرية.
المهم من هذا المثال، هو فهم عقلية الأعداء في تفتيت الجبهة الوطنية الداخلية، بإحداث وتعزيز الانقسام، وتغذية الصراعات الداخلية..
بمقاربة هذا المثال مع الحالة الفلسطينية، سنجد أن "حماس" مارست بشكل أو بآخر دورا شبيها بالدور الذي مارسه حزب "إنكاثا"، انطلاقتها في بدء الانتفاضة الأولى جاءت كما لو أنها لمواجهة القيادة الوطنية الموحدة، والتشويش على منظمة التحرير، وإضعاف تمثيلها للشعب الفلسطيني، فعالياتها النضالية كانت مختلفة بتوجهاتها وأولوياتها وأيام إضرابها، ما أضر بالإجماع الشعبي وأنهك الانتفاضة.. وعند بدء العملية السلمية بدأت تمارس تكتيكات كفاحية جديدة، ولأول مرة، وهي العمليات التفجيرية الانتحارية، وكانت هذه العمليات تأتي على إيقاع العملية السياسية بين المنظمة وإسرائيل، وتتصاعد كلما اقترب الجانبان من التوصل لاتفاق، حتى بدا كما لو أن الهدف منها إحراج السلطة، وإرباكها.. والغريب أن هذه العمليات توقفت كليا بمجرد دخول حماس في العملية السياسية بدءا من العام 2004، وأخيرا استئثارها وتفردها بحكم غزة، وإصرارها على إبقاء الانقسام، وإفشالها كل جهود المصالحة بذرائع وحجج مختلفة.
الانقسام، لا يضعف السلطة وحسب، بل ويضر بالقضية الفلسطينية، وبسمعتها، وبقوتها الأخلاقية، ويعطل أية إمكانية للتوصل لأي حل..
صحيح أن إسرائيل لم تتعرض لعزلة وعقوبات دولية كما حدث لحكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، لكنها تعاني من أزمة إستراتيجية توجب منها إيجاد حل، وعانت في السنوات الأخيرة من حملة انتقادات دولية ومن عزلة غير مسبوقة، كما أن المجتمع الدولي طرح حلولا ومبادرات عديدة.. حتى لو كانت هذه الحلول لا ترقى إلى مستوى الطموح، وحتى لو كانت الانتقادات الموجهة لإسرائيل ليست بالمستوى والفعالية المطلوبة.. إلا أن هذا لا يعفي الجانب الفلسطيني من مسؤوليته عن كل ذلك، بسبب ضعفه وانقسامه..
بمعنى أن الانقسام وضعف الجبهة الداخلية أحد أهم أسباب تمادي إسرائيل، وضعف الضغوط الدولية عليها، إذ إن إسرائيل تتذرع بأن القيادة الفلسطينية لا تمثل كل الشعب، وليس لديها سيطرة على القطاع... بل إن هذا الوضع يشجع على طرح مشاريع تثبيت دويلة غزة على حساب الحل الشامل.
حماس استفردت بغزة، وحولتها إلى جيب بائس بلا أية فرصة للحياة، وفتح أيضا بترهلها وضعفها وتراجعها تتحمل مسؤولية هذا الخراب.. ببساطة لقد فتكنا بأيدينا بمشروعنا.