كثير من «التفكير»؛ قليل من «التدبير» !

حسن البطل
حجم الخط

متى توقف عرفات عن مرّ الشكوى من «زمن عربي رديء» الذي تكرّر على لسانه إبّان الحقبة اللبنانية في العمل الثوري الفلسطيني؟
أنعشت ذاكرتي فقرة من شهادة زميلي أكرم مسلّم عن «التيارات الجديدة في الأدب الفلسطيني» («أيّام الثقافة»، الثلاثاء 28 شباط).
الانتفاضة الأولى كانت شرارة أولى في إنتاج الزميل مسلّم الروائي، كما في «هواجس الاسكندر». آنذاك شارك الروائي فيها برمي الحجارة، ويبقى في ذاكرته فقرة من حديث إذاعي لعرفات، قال فيها: «من ليس له وجود على الجغرافية، لا وجود له في السياسة».
هذا أساس الجغرافية ـ السياسية (الجيوبولوتيكا)، وقد نجده في تعبير أدبي لشاعرنا القومي: «من لا برّ له لا بحر له»، أمّا في تعبير الشاهد الأدبي، فإن قول عرفات ودرويش، صاغه في هذه العبارة: «عودة إلى قليل من الجغرافية بدل الكثير من التاريخ».
لو نطق لسان الرئيس الممأسس أبو مازن، وأضاف إلى شكوى الرئيس المؤسس «زمن عربي رديء» لشكا من جملة أزمان رديئة: عربية (منذ سقوط بغداد، إلى حال الربيع العربي، وفلسطينية (الانقسام الغزّي) وإسرائيلية (أعتى حكومة يمينية) ودولية (بدء حقبة الرئيس ترامب).
الانتقال من جغرافية الشتات، إلى جغرافية البلاد، ومن حقبة المنظمة والثورة المسلحة، إلى حقبة السلطة والدولة، موضع سجال فلسطيني وإسرائيلي، وإقليمي، أيضاً.
أفرقاء الصراع السوري ـ الإقليمي ـ الدولي، يذهبون إلى أستانا وجنيف، لا الى الرياض والقاهرة، وأفرقاء الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي الإقليميين ذهبوا إلى طهران واستانبول وستذهب السلطة إلى انتخابات بلدية في الضفة ومؤجلة في غزة!
توصيات مؤتمر استانبول أهم من خطب حماسية لمؤتمر طهران، والأهم في المؤتمرين أنهما لم ينسقا مع م.ت.ف، التي عاشت واجتازت بنجاح محاولات اختلاق منظمة بديلة، أو موازية ومنافسة للممثل الشرعي المعترف به عربياً وعالمياً.. وحتى إسرائيلياً في أوسلو.
حركة «فتح» القائدة ـ الرائدة عقدت مؤتمرين لها في الجغرافية الفلسطينية (بيت لحم ـ رام الله) وليس في دمشق والقاهرة والجزائر وتونس؛ لكن المجلس الوطني للمنظمة عقد مؤتمراً ـ جلسة ملتبساً في غزة بحضور الرئيس كلينتون.
من الواضح أن مؤتمراً حقيقياً ـ تمثيلياً للمجلس الوطني في هذه الجغرافية الفلسطينية أمر صعب التحقيق دون اجتماع جناحي رام الله ـ غزة، واتفاقهما على سبيل لإنهاء انقسام طال أكثر من عشر سنوات، بينما مؤتمرات عديدة لرأب صدع الانقسام انتهت إلى انتخابات بلدية، أولاً، في الضفة، ولاحقاً في غزة، إن وافقت «حماس» التي كانت محورا فلسطينيا في مؤتمر استانبول، تركز على دور اللاجئين والمغتربين.
السلطة، ذراع م.ت.ف، حققت «القليل من الجغرافية» في سعيها السياسي إلى قليل من الدولة على أرض «الجزء المتاح» من البلاد، حسب تعبير الشاعر أحمد دحبور، وتتحالف مع الشرعية الدولية والقانون الدولي لتحقيق هذا.
رداً على مؤتمر استانبول وطهران وربما القاهرة، جرت في رام الله حلقة بحث لسياسيين وأكاديميين، خرجت بتوصيات إلى السلطة والمنظمة حول تفعيل دور المغتربين واللاجئين الفلسطينيين خارج الجغرافية الفلسطينية، أساسها تفعيل دورات منتظمة للمجلس الوطني، تطبيقاً لقرارات متكررة للمجلس المركزي في اجتماعاته كل ثلاثة شهور.
في حفل الختام لـ «أراب آيدول» قيل إن ما لم يتحقق بوحدة الشعب في الشتات والضفة وغزة، تحقق في الأغنية، وفي ثلاثة من المغنين: من الشتات والضفة وغزة!
إسرائيل الحالية تطالب الفلسطينيين الاعتراف بها وطناً للشعب اليهودي، والبعض الفلسطيني مثل الزميل توفيق أبو شومر (مقالة الأربعاء) يقول إن إسرائيل هي دولة سبطين يهوديين من الأسباط الـ12، هما بنيامين ويهودا، وهي تريد استغلال صعود اليمين في أميركا وفرنسا بالذات (أكبر تجمعين يهوديين في الدياسبورا) للتغلب على خطر الديمغرافيا الفلسطيني المستقبلي.
هل يمكن القول إن «أسباط» الشعب الفلسطيني هم في جغرافية البلاد (الضفة وغزة وإسرائيل) وكذا في الشتات والاغتراب؟
إن التجاذب الإقليمي السني ـ الشيعي (تركيا ـ إيران) والعربي (مصر، والسعودية وقطر) يؤثر على الشتات الفلسطيني، أو بالذات المخيمات الفلسطينية، كما تداعيات الفوضى في دول «الربيع العربي».
مصير الشتات الفلسطيني في سورية يتلخص بالوضع المأساوي الحالي، وخاصة في عاصمة الشتات (مخيم اليرموك) حيث تحالف النظام مع «حماس» المناوئة لـ «فتح» ثم خسرت «حماس» السيطرة على المخيم لصالح متطرفين أكثر منها.
لا تسيطر المنظمة «فتح» سوى على ثلاثة مخيمات في جنوب لبنان: البص، الرشيدية، برج الشمالي... لكن المتطرفين والجهاديين الإسلاميين في المخيم يتحدون سيطرة «فتح» بتشجيع من أطراف لبنانية سنية، وخاصة سياسيين سنة لبنانيين، يرون في مخيم عين الحلوة عقدة ربط لعرقلة حركة حزب الله من الجنوب إلى بيروت؟!
سيقال الكثير في نقد أو تأييد سياسة السلطة والمنظمة في «عدم التدخل» في فوضى الحروب العربية، والنزاع السني ـ الشيعي، لكن محاولات الدول الإقليمية للتدخل في الشأن الفلسطيني أضيفت للتدخلات العربية الفاشلة!
قليل من الجغرافية الفلسطينية، أي السلطة الفلسطينية وفصائل المنظمة تواجه حقول ألغام ليس من اسرائيل فقط، لكن من أزمان رديئة: عربية، إقليمية، مذهبية، عدا زمن دولي رديء.
من الواضح أن توصيات استانبول، وخطابات طهران، وحتى توصيات حلقة البحث في رام الله لن تتحقق، ولو تعدد «التفكير» فيها، بينما «التدبير» لتحقيقها يشكل فجوة كبيرة بين التفكير والتدبير.
صمدت المنظمة سنوات أمام «زمن رديء عربي» وخرجت بجلدها من اجتياح العام 1982، وعلى السلطة أن تصمد في القليل من الجغرافية، مع أزمان رديئة.
السلطة، بما لها وبما عليها، هي السارية المرفوعة في الجغرافية الفلسطينية. إنها الروح السياسية الفلسطينية، وعن الروح قال درويش: «على الروح أن تجد الروح في روحها.. أو تموت هنا»!