لم تشهد محطات جنيف السابقة ولا حتى محطة أستانا، حالة الشد والرخي أو حالة عض الأصابع، كما هو معروف في عالم السياسة، كما يحدث الآن في محطة جنيف الرابعة، وهي محطة التفاوض غير المباشر، أو برعاية ستيفان دي ميستورا، مندوب الأمم المتحدة، الناشط الأممي وبحضور فاعل لممثلي الدول المؤثرة، ومن بينها روسيا بالطبع؛ ذلك أن هذه المحطة تجيء بعد أن أخرجت حلب _ بتواطؤ دولي على ما يبدو _ من معادلة الصراع الميداني، كذلك في لحظة يجري فيها الإجهاز على "داعش" خاصة في العراق، حيث تشارف معركة الموصل على الانتهاء، بعد نحو ستة شهور من الحرب، رغم أن "داعش" كان قد احتلها في خمسة أيام، حتى لا نقول في خمس ساعات كما تقدّر بعض الجهات المختصة، وهذا يعني بشكل واضح أن ملفي العراق وسورية الداخليين، يمران بلحظة حاسمة، تنتقل خلالها البوصلة الداخلية لمنعطف جديد، لا يمكن إلا وأن تتغير فيه طبيعة الدولة، كذلك الوضع الداخلي، وبالطبع العقد الاجتماعي بين مكوناته من طوائف وأعراق وقوميات، وما إلى ذلك.
الحل أياً يكن في العراق وسورية، يعتبر أمراً في منتهى الأهمية، لكل دول وشعوب المنطقة، ليس فقط لأن العراق وسورية دولتان مركزيتان، في الحرب والسلم، وهما ركيزتان أساسيتان، من ركائز القومية العربية وحسب، وليس لأنهما تحوزان على إرث تاريخي سياسي / حضاري / ثقافي وحسب، ولكن أيضاً، وهذا أمر مهم جداً _ الآن _ لأنهما، دون معظم الدول العربية، تتجاور فيهما وتتعايش الطائفية / المذهبية، خاصة طائفتا السنة والشيعة.
في العراق، اجتمع الجميع ضد "داعش"، الذي في أحسن أحواله، كان يمثل "حصان طروادة" مدسوس، يتم توجيهه "بالريموت كونترول" عن بعد، لتحارب معركة خاسرة للسنة العرب، الذين بدلاً من أن يقاتلوا ضد نظام طائفي تمت إقامته كبديل أسوأ لنظام صدام حسين الدكتاتوري، بأدوات الكفاح السلمي الذي يدفع لأن يكون البديل دولة مواطنة حديثة، كان استلام الراية من جماعة إرهابية تعزيزاً للنظام الطائفي الذي أشرفت على إقامته أميركا بعد أن أسقطت نظام صدام حسين، ومن هنا تتضح مصلحة واشنطن في إنشاء "داعش" من تحت الطاولة وفي الخفاء. لذا فإنه في العراق الكفاح بات صعباً من أجل تجاوز النظام الطائفي القائم، على الأقل في المدى المنظور، لذا انفتحت فوراً معركة داخل الطائفة الشيعية على تقاسم الحصص، فيما يبدو، حين أطلق التيار الصدري تظاهراته ضد الحكم الموالي لطهران.
الأمر في سورية يبدو مختلفاً، ذلك أن أحداً عليه ألا ينسى الفارق بينها وبين العراق من عدة زوايا، أولها، أن العراق مجاور تماماً لإيران الدولة الشيعية، والشيعة العرب فيه أكثر من السنة العرب، في حين أن السنة (عرباً وأكراداً) أكثر من الشيعة، لذا فإن إقامة نظام حكم تكون فيه الغلبة للشيعة تطلّب الفصل أولاً، بين السنة على أساس عرقي / قومي، فتم منح إقليم كردستان الحكم الذاتي الكامل، وكان ذلك أول الترتيبات الأميركية ما بعد صدام، ومن ثم إقامة النظام الطائفي، بحيث تم منح الشيعة رأس الحكم _ رئيس الحكومة في دولة برلمانية، ورئيس الجمهورية الشرفي للأكراد، ثم رئيس البرلمان الأقل شرفية للسنة العرب، فيما الوضع مختلف في سورية المجاورة لتركيا، الدولة السنية، وسنة سورية أكثرية تفوق الطائفة العلوية كثيراً، لذا احتاجت إيران ومعها حزب الله للتدخل عسكرياً وفي وقت مبكر حتى لا يحدث في سورية ما حدث في العراق ولكن بشكل مقلوب، أي إسقاط النظام العلوي لصالح حكم جديد تكون الغلبة فيه لطائفة السنة.
رغم أن روسيا ساهمت كثيراً في الاقتراب من حسم الملف السوري، إلا أنها فضلت في الأمتار الأخيرة الحل السياسي، الذي يبدو أنه مدار البحث الآن في جنيف 4، حيث تترافق المفاوضات مع استمرار الحرب ميدانياً، رغم التوصل لأكثر من اتفاق لوقف النار، ذلك أن استعادة قوات النظام لحلب أصابه بالغرور، لدرجة أن يظن أنه بإمكانه أن يحسم الصراع عسكرياً وأن يعود لسابق عهده، ونسي أن الحسم جاء بفضل التدخل الدولي _ خاصة الروسي _ وهذا لا يكون بلا ثمن، أقله أن تصبح رقبة النظام بيد موسكو، لكن المهم الآن أن ملامح الصفقة السياسية في سورية بدأت تتضح، على أساس، المناطق الآمنة والانتقال السياسي، مقابل وقف الحرب.
صحيح أن المعارضة خرجت من أهم معاقلها التي كانت تأخذ سورية للتقسيم، لذا فإن حسمها أبعد هذا الاحتمال كمآل نهائي، لكن استمرار حرب العصابات إن كان في ريف دمشق أو درعا، أو حتى في الشمال حول الباب مع دخول الجيش الحر وتركيا، يعني أنه لا بديل عن نتائج سياسية وتنازلات يقدمها النظام، مقابل عدم الإطاحة برأسه.
المهم، أن يتعلم الفلسطينيون من كل هذا درساً، مفاده بأن الوهم هو الذي يزيّن للبعض أنه يمكن الاهتمام بالملف الفلسطيني والعراق وسورية خارج الإطار، بل إن من دفع إلى فتح الملف الطائفي وحتى القومي بين العرب والفرس والترك، بين السنة والشيعة، أراد لملف الصراع الفلسطيني / الإسرائيلي أن يركن إلى الرف، لهذا ومع قرب طي ملفي العراق وسورية، عاد الحديث عن "حلول" للصراع الفلسطيني / الإسرائيلي، لذا فإن الحكمة السياسية تتطلب أن يحضّر الجانب الفلسطيني نفسه جيداً، لحل قادم ممكن، وحتى لا يكون من وراء ظهره، عليه أن يدخل القوى التي لها مصلحة ضد إسرائيل، بعيداً عن الشعارات والأوهام، فالآن، السياسة مصالح بشكل تام وكامل، وإذا كانت لروسيا، إيران، تركيا مصلحة كقوى إقليمية في الحد من طموح إسرائيل بالهيمنة الكاملة على المنطقة، فإن فلسطين تجد مصلحتها مع كل هؤلاء.