"حبر الشمس"، أسلوب فريد ومختلف من الكتابة الإبداعية.. يمزج الأدب بالتراث بالكتابة السردية.. وأنت تقرؤه تحسُّ كما لو أنك تقرأ شعراً، ولكنه شعر متخفف من بحوره، ومن لزوم القافية.. فتقرؤه نثرا، فتجده يفيض بالمعلومات والتوثيق.. هو ضرب من أدب الرحلات، ولكنها رحلات في قلب الوطن، أو هو من أدب المرويات، يتحدث عن مأساة الفلسطيني ووجعه من جهة، وعن فرحه، وشغفه بالحياة من جهة ثانية.. يأخذك معه في رحلة طويلة شيقة، تسمع في خلفيتها سيمفونية موسيقية حالمة.. سرعان ما تثير عواطفك، وتريح أعصابك، ثم تشدها ببراعة وقوة، دون تحريض مباشر، ودون شعارات.. لكنها تدلك على الاتجاه الصحيح، حيث ينبغي أن تكون..
خالد الحروب، الأكاديمي والكاتب والشاعر، اختبر منذ مطلع شبابه كل التيارات الفكرية والسياسية، من الماوية في أقصى اليسار، إلى القومية، والوطنية، والإسلامية، والإخوان المسلمين.. تنقل بينها كفراشة، بعد أن طرح من كل تيار كل ما لم يستسغه وجدانه، وما رفضه ضميره، وأخذ منها كل فكرة أحبها قلبه الطيب، وتقبلها عقله النير بقبول حسن، ثم صاغها على طريقته وبأسلوبه الخاص.. بانفتاح المثقف الحقيقي (القلِق)، مزجها معا، واستخلص منها كل ما يقوده نحو رؤيته الخاصة، التي ظلت بوصلتها تتجه أبداً نحو نجمين: الإنسان، وفلسطين..
في كتابه الشيق "حبر الشمس" (إصدار الدار الأهلية، 2016، يقع في 123 صفحة من القطع المتوسط)، يبدأ "الحروب" رحلته من غزة، فيصوّر لنا مشاهد إنسانيتها، وإبداعها، وتعلقها بالحياة، خلافا للصورة النمطية التي دأب الإعلام على تصويرها لنا، بأنها مجرد حزام بؤس يستحق الشفقة، أو عبارة عن قلعة صلبة للمقاومة تنتظر منا القصائد والأناشيد.. ثم يصعد بنا عاليا إلى جبل الجرمق، أعلى قمة في فلسطين، ليصافح منها السماء، ويرينا من هناك جمال الكون منداحا في الجهات الخمس، ويطل من على شرفتها على مئات القرى والبلدات التي أسقط أهلها الحرف العبري عنها، وأعادوا كتابة أسمائها العربية.. ثم يواصل السير شمالا حتى رأس الناقورة ومارون الراس في الجنوب اللبناني، ماحيا الحدود بينها وبين الجليل الأعلى..
يعود "الحروب" إلى بلدته "وادي فوكين"، محاولا رد الاعتبار لباذنجانها الذي نحلت اسمه جارتها "بتّير"، مذكرا بأن القريتين وعشرات القرى الأخرى قضم جدار الفصل العنصري أغلى وأجمل أراضيها.. ولا ينسى أن يعرّج على "الدهيشة"، المخيم المنتصب بشموخ في قلب بيت لحم، طارحا من خلاله صوراً شتى عن حياة المخيمات.. ثم يصعد شمالا إلى رام الله، مُسقطاً كل الأطروحات السطحية التي تناولت جانبها المعتم، والتي اختزلتها في "بار"، أو صوّرتها كفقاعة.. يمضي "الحروب" سهرات شيقة في مهرجانات "صيف رام الله"، بعروضها الفلوكلورية، ومع الفرق الفنية التي أتت من أصقاع الأرض، لتقدم وصلات إبداعية من الرقص المعاصر، والتي من خلالها شرعت "مصيف فلسطين" و"عاصمتها المؤقتة" نوافذها وأبوابها على العالم أجمع..
يخصص "الحروب" فصلا عن جدار الضم والتوسع، واصفا قبحه وبشاعته: "مثل سكين حاد جاف هبط من سماء العنصرية ليمزق البلاد"، ومعددا مخاطره على مستقبل أي حل، لافتا أنظارنا إلى لوحات فنية زينت الجدار وسخرت منه للمبدع البريطاني "بانسكي"..
وفي فصل آخر ممتع وحزين، يأتي على جبال الخليل، بادئا من قلب مدينتها العتيقة التي تئن تحت وطأة إرهاب حفنة من المستوطنين، مرورا بالدوايمة والسموع ليذكرنا بأن هاتين البلدتين شهدتا مجزرتين رهيبتين، الأولى أثناء النكبة، والثانية عشية النكسة، ثم يهبط جنوبا نحو النقب، ماراً بمدنه الصامدة، بئر السبع وراهط واللقية وعشرات القرى غير المعترف بها..
يرجع إلى أقصى الشمال، إلى الجولان المحتل، حيث تقول الأسطورة إن آدم وحواء هبطا فيها بعد أن أطاحت بهما شهوة التفاح من جنة السماء، ليجدا جنة أخرى أرضية تفيض بالتفاح.. حيث الهضبة التي يلف أوديتها وسفوحها غموض ساحر، وحيث نهايتها بطن التاريخ.. يسهر مع أهلها الطيبين، الذين ما زالوا يدهشون زائريهم بحكايا جدلتهم مع المكان ألوف السنين.
وفي فصلين متتالين يتحدث عن المصور الفلسطيني المبدع أسامة السلوادي، الذي شربت عيناه قوة ساقيه، مستعرضا كتابين من بين عشرة كتب أنتجها رغم محنته الخاصة: "ملكات الحرير"، الذي يقدم فيه صورة بصرية مدهشة عن الثوب الفلسطيني الكنعاني، و"بوح الحجارة"، الذي تحوم فيه عدسته الرهيفة بلا كلل، يلتقط الجمال المنثور على طول البلاد وعرضها، من بيوت قديمة، وأحياء عتيقة مرت عليها الأزمان دون أن تنال منها..
ثم يأتي على "الخضر"، قديس الحب، ابن مدينة اللد، القديس "مار جرجس"، يدافع عن صورته الشهيرة التي تحولت إلى أيقونة في الوجدان الشعبي، وهو يصارع الوحش من فوق صهوة حصانه، غارسا رمحه في قلبه.. يقول عنه: كان "الخضر" في الكنائس الفلسطينية رمزاً للفداء والتضحية والحب والسلام، اختطفته أوروبا وصنعت منه راية للحروب والدماء، بهدف تسويغ حروبها الوحشية بأيقونة دينية، حيث حاربت بريطانيا ألف عام تحت رايته.. اليوم، هناك أزيد من مائة بلدة أوروبية تسمت باسمه.
وفي ثلاثة فصول، يشكو "محمود درويش" إلى ساحرة الشعر، وعن ظله الذي غطى على شعراء عصره، يحكي قصته مع الشاعر الكبير، وعن موسيقى الثلاثي جبران التي رافقته في سنواته الأخيرة، وعن موعده معه الذي لم يتحقق، بعد أن توقف قلبه منهيا صراعه مع الموت الذي قال عنه: "هزمتك يا موت الفنون جميعها".. ويحكي عن جملته الأثيرة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، منتقداً المثقفين الذين يريدون احتكار درويش لأنفسهم، مستكثرين على سائقي الباصات والباعة الجائلين أن يرددوها بتلقائية وبساطة.
ويحكي عن راشيل كوري، شهيدة الإنسانية.. وعن ياسمين ابنة بورين التي علت روحها وإرادتها أعلى قمة في إفريقيا، فتسلقتها بساق واحدة، وعن الروائي إبراهيم نصر الله الذي صور قصتها بإبداع في "أرواح كليمنجارو".. وعن محمد عساف، الشاب الطموح، الذي تخطى قهر الحصار وبؤس المخيم إلى العالمية..
ينهي "الحروب" كتابه بسرعة تفاجئ القارئ الذي سيرغب لو أنه أطول قليلا، بالحديث عن طائر الفينيق، كما لو أنه يريد القول إن أسطورة الانبعاث الفلسطيني، ليست أسطورة، بل حلم يكاد يقترب من المستحيل، تزنر بالأمل في مواجهة آلة البطش الإسرائيلية..
"حبر الشمس"، كتاب غير عادي، يشدك من بدايته لنهايته المفتوحة على كل الاحتمالات..