في حوار جرى مؤخراً مع عدد من الشبان والشابات من خريجي الجامعات الفلسطينية، هالني وراعني وصدمني درجة انتشار الاعتقاد بينهم، وإن لم يكن جميعهم، أن الانتفاضات والثورات العربية هي مؤامرة غربية. أنا أعرف أن هذا الاعتقاد واسع الانتشار منذ فترة، وأن صفحات الـ"فيسبوك" مليئة بنظرية المؤامرة لتفسير أحداث عدة وليس فقط الانتفاضات والثورات العربية. لكني لم أتوقع أن الشباب المتعلم، وبعضهم من حملة الشهادات العليا، سيأخذ ضرورة بها.
لكن، ما لفت نظري بشكل خاص هو شدة اعتقاد البعض بهذا التفسير للثورات العربية، والدفاع القوي والمنفعل بكل العواطف الجياشة والغضب العارم، والمبرر أيضاً، تجاه تاريخ العلاقة الاستعمارية والكولونيالية مع عدة دول غربية، بما في ذلك دعمها لإسرائيل. وأنا متعاطف طبعاً مع هذا الغضب والشعور العميق بالغبن والمظلومية، لكن تفسير أسباب الثورات العربية تفسيراً عقلانياً أمر آخر.
لذا، وفي هذا لحوار، رأيت أن أسأل السؤال الأولي والمركزي لأي نقاش يحكم العقل والأدلة في الموضوع: ما الدليل؟ ما الدليل على أن الثورات العربية مؤامرة غربية؟ ووجدت في أكثر من إجابة إشارة محددة إلى ما قالته وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق كوندوليزا رايس، ما معناه أن الولايات المتحدة في عهد الرئيس الأسبق بوش الابن تتطلع إلى تشكيل "شرق أوسط جديد". هذا على ما يظهر، هو الدليل الأقوى "للتفسير المؤامراتي للأحداث"، أي ليس فقط التكهن عن النوايا وافتراض أهداف دون دليل ملموس، بل وفي هذه الحالة، "من فمهم ندينهم".
لذا، وابتداء، سألت: لكن هذا كان على شفا العدوان على العراق قبل ثماني سنوات من الانتفاضات في تونس ومصر، وكان هذا القول في سياق غزو أفغانستان والعراق، وربما كان الهدف بعد ذلك سورية وإيران، أو حتى إيران أولاً كما كانت تريد إسرائيل لفصم عرى "محور المقاومة"، وفي حقبة المحافظين الجدد، وليس في حقبة الرئيس أوباما. وفي كل الأحوال، كيف يصلح ما قامت به إدارة بوش في العراق كدليل على أن إدارة أوباما ودول غربية أخرى كانت وراء انتفاضات وثورات تونس ومصر، والمظاهرات والاحتجاجات التي قامت أيضاً في دول عربية أخرى؟
أشار البعض هنا إلى سورية ووجود "حرب بالوكالة" على أرضها. وافقت طبعاً على هذا، لكن الطرف الخارجي هنا في المقام الأول عربي وتركي من ناحية التمويل والتسليح وفتح الأبواب "لمجاهدين" من أقاصي الأرض من خلال تركيا أساساً، للانضمام لهذا المسعى. ليس هذا فقط، وإنما أيضاً العزوف المعروف لإدارة أوباما ودول غربية أخرى عن الانخراط بشكل رئيس في هذه الحرب رغم الضغط المستمر من قبل دول عربية محددة قالت علناً: إن أوباما خذلها في سورية، وتتطلع الآن إلى "تعاون" نشط وأكبر مع إدارة الرئيس ترامب. وكانت هذه الدول ضد الاتفاق مع إيران حول "الملف النووي" أسوة بموقف إسرائيل. والاتفاق مع إيران يعني بقاء "محور الممانعة" وإن كان بتفاهمات محددة.
ثم تساءلت بالنسبة للشعب العربي عموماً وبالنسبة لتونس ومصر تحديداً: كيف يمكن لدول خارجية إخراج مظاهرات مليونية في مصر مثلاً، لأيام وأسابيع، وما هي الطرق التي استخدمت لإقناع هذه الآلاف المؤلفة من "المضللين" بالتظاهر يوماً بعد يوم؟ وألا توجد تظلمات كبيرة داخلية تدفع الناس للخروج بهذا الزخم ومواجهة قوى الأمن والاشتباك معها واستشهاد العديدين منهم في غمرة هذا الصراع، بما في ذلك ما يقارب الألف في موقعة رابعة لوحدها، ناهيك عن موقعة بور سعيد على سبيل المثال لا الحصر، وكل هذا بفعل مؤامرة خارجية؟
يتشعب الحديث ويتفرع. تعطى أمثلة على كيفية حدوث تأليب الجمهور المصري. اسم وائل غنيم على رأس القائمة كونه يعمل مع شركة جوجل والذي كان له دور رئيس في إشعال الثورة حسب هذا الرأي، ثم يجري الحديث عن تدريب لفرق من الشباب المصري استعداداً للثورة ودور غنيم في هذا. "معلومات" كثيرة لم أسمع عنها شخصياً رغم متابعتي اليومية للأحداث في مصر، كلها تنتظم دعماً لوجهة النظر هذه.
ثم أسال: من أجل ماذا؟ ألم يكن نظام مبارك حليفاً للولايات المتحدة ومرضياً عنه من قبل إسرائيل؟ لماذا يريدون الإطاحة به؟ نعم، يأتي الرد، مبارك كان حليفاً، لكن كان هناك سلام بارد مع إسرائيل وكانوا يريدون علاقة أوثق وإيصال الإخوان المسلمين للحكم.
هنا تتفرع الأسئلة وتتشتت، ويصبح من المتعذر الإحاطة بالنقاش وضبطه ويقارب أن ينتهي دون تغيير في القناعات: نعم، سعت إدارة أوباما إلى دمج الإخوان في الحكم في مصر ودول أخرى كحزب "معتدل" لغرض الفصل بين "الإسلاميين المعتدلين" و"الإسلاميين المتطرفين". لكن هذا شيء وتدبير ثورة شيء آخر. وفي كل الأحوال، كان هذا المسعى لو صح سيخلق شرخاً في التحالفات الإقليمية للولايات المتحدة، خاصة مع دول عربية وثيقة الصلة معها منذ تأسيسها، ترى في الإخوان خطراً داهماً كنموذج قد يصلها ويؤجج المطالب الداخلية بالإصلاح. وقد عملت بعض هذه الدول ما في وسعها للإطاحة بالإخوان بالتحالف مع "الدولة العميقة" في مصر. وهكذا يستمر الحديث دون تعديل المواقف.
يصعب في حوارات من هذا النوع محدودة بالظرف والوقت تغيير القناعات. وقد لا تتغير القناعات لسبب آخر. فنظرية المؤامرة لتفسير الكثير من الأحداث التاريخية منشؤها في رأيي عنصر نفسي أيضاً. ليس لأنه لا توجد "مؤامرات" تقوم بها دول. لكن أسال: ما الفرق بين "مؤامرة" و"خطة سرية"؟ لدى الكثير من الدول خطط سرية لا تفصح عنها دائماً سواء كانت داخلية أم خارجية. مثلاً، لا بد من أنه كان لدى إسرائيل خطة سرية لقصف مواقع محددة في إيران في فترة ما، قبل أن تجاريها إدارة أوباما.
من ناحية مدلول كلمتي "مؤامرة" و"خطة سرية"، من غير الواضح أنه يوجد فرق بينهما فيما تدلان عليه. لكن الفرق قد يكمن في الجانب المشخصن لكلمة "مؤامرة"، الجانب "الكيدي" الموجه "ضدنا". إنه كيد الإعداء، ومكر ودسائس الذين يريدون تعميق استتباع العرب وتبديد مصادر قوتهم وتفتيت دولهم. نعم، هذا كله ممكن، لكن إفقاد الشعوب العربية الإرادة والعزم والمقدرة على الاحتجاج أو الثورة دون تدبير خارجي ودسيسة تآمرية مهما بلغ عسف الحكم والظلم والإفقار مداه، لا دليل عليه يعتد به في التاريخ العربي أو البشري. لكن، من يدري، فلعل الانتفاضة الفلسطينية الأولى كانت مؤامرة خارجية أيضاً.