الأزمة الكبيرة التى يعانى منها الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب الآن، فى مواجهة شعبه، هى الكذب، وليس أى شىء آخر، مراكز الأبحاث أصبحت تُركِّز جهودها فى هذه القضية تحديداً، وسائل الإعلام تقوم بحصر حالات الكذب فى حياته، منذ أن ظهر على الساحة الحزبية خلال الأعوام الأخيرة، الشعب الأمريكى فى حالة استياء غير مسبوقة، الدعوات إلى استقالته، أو إقالته، أصبحت الأكثر شيوعاً، ترامب أصبح مهدَّداً بالفعل بالإطاحة به بين لحظة وأخرى، ربما لن يتوقف الأمر على مجرد الإطاحة، قد تكون هناك محاكمات لكل وقائع الكذب.
المقارنات مع الرؤساء السابقين لا تتوقف، كذبة واحدة أدانت الراحل ريتشارد نيكسون بشأن نفى تجسس حزبه الجمهورى على الديمقراطيين فى الانتخابات، أودت به إلى خارج البيت الأبيض، كذبة واحدة صدرت عن الأسبق بيل كلينتون، بشأن نفى علاقته بمونيكا لوينسكى، كادت أن تودى به هو الآخر، مجلة POLITICO رصدت الكذب بنسبة ٧٠٪ فى تصريحات ترامب، بينما ٤٪ منها فقط كانت صحيحة، و١١٪ كانت صحيحة تقريباً، نيكسون وكلينتون كانا يسعيان إلى حماية سمعتهما، أما الكذب لدى ترامب، كما تقول المجلة، كان تلقائياً، بمناسبة ودون مناسبة، كأنه يجلب له المتعة!!
رصد الكذب فى حياة ترامب ثبت أنه فى كل المجالات تقريباً، السياسية والاجتماعية والشخصية، دراسات الحالة أكدت أنه وصل إلى سدة الرئاسة عن طريق الكذب والخداع، أحد الصحفيين الألمان رصد الحالة، قال إن ترامب يكذب بمعدل أربع مرات فى اليوم، كذب فى علاقته الخفية مع روسيا، كما كذب فى تقدير ثروته، كما كذب فى تصوير نفسه بطلاً، كما كذب كلما أراد أن ينفى ما قاله سابقاً، عن جون ماكين، عن العنف، عن حق اليابان فى امتلاك سلاح نووى، عن اتهامات لوالد منافسه فى الانتخابات التمهيدية، تيد كروز، عن إهانته للصحفى المعاق، سيرج كوفاليسكى، وغير ذلك من كثير.
وسائل الإعلام الأمريكية بحثت فى ثروة ترامب، وجدت أنها حسب مجلة «فوربس» لم تتعد ٤.٥ مليار دولار، فى حين أنه ردد مرات كثيرة خلال حملته الانتخابية أنها عشرة مليارات، وسائل الإعلام كشفت أنه لم يتبرع ولو بسنت واحد لضحايا هجمات ١١ سبتمبر، فى حين أنه كان قد أطلق وعداً بالتبرع بمبلغ عشرة آلاف دولار، لنا أن نتخيل أن مكتب المراقبة المالية لمدينة نيويورك، بحث يدوياً فى ١٥٠٠ صفحة من سجلات المتبرعين، التى ضمت نحو ١١٠ آلاف شخص، حتى يستوثق من التصريحات، التى ثبت كذبها، ناهيك عن أكاذيب أخرى بشأن الفضائح الجنسية والضريبية.
السؤال هو: هل يمكن أن يكون الرئيس، أى رئيس، كذاباً، ما بالنا لو كان معتاداً للكذب، لدرجة أصبح يردد معها طوال الوقت: أنا لا أكذب، أنا لا أكذب!!، الشعب الأمريكى سجّل سوابق تاريخية أقل حِدَّة فى هذا الشأن، وها هو يسجل الحالة الأبرز والأسوأ على الإطلاق، فضائح ترامب الشخصية، سواء كانت جنسية أو ضريبية، أو همجية، اختفت جميعها خلف الجريمة الأكبر، وهى الكذب، هى الآفة التى سوف تقصم ظهر البعير، خاصة بعد أن سقط فى واقعة كذب مع القضاء تحديداً، قال أحد القضاة بشأنها إنها أمر محبِط، بينما قال سيناتور ديمقراطى، إن لغته تجاه القضاء غير مناسبة، ثم تم تتويج كل ذلك أخيراً باتهام الرئيس السابق باراك أوباما له بالكذب، بعد أن اتهمه ترامب بأنه كان يتجسس عليه خلال الحملة الانتخابية.
المثير فى الأمر هنا أن ترامب قد يعتقد، كما يرى المراقبون، أنه يكذب على الصحفيين فقط، خلال المؤتمرات الصحفية، كما حدث كثيراً، أو حتى على وسائل الإعلام عموماً، هو لا يدرك أنه يكذب على شعبه، وهو أسوأ أنواع الكذب بالنسبة لأى رئيس، أو لأى سياسى بشكل عام، فقد تستدعى السياسة الكذب على الطرف الآخر، فى مفاوضات ما بين طرفين، أما عندما يتعلق الأمر بالكذب على الشعب، فإن حالة واحدة يتم توثيقها، تصبح كافية لفقدان الثقة، وبالتالى لم يعد هناك أى مبرر للالتقاء بين الحاكم والمحكوم، حتى لو توقف الأمر على مجرد تصريحات للاستهلاك، دون توقيع اتفاقيات هنا، أو القيام بمفاوضات هناك، سرِّية كانت أو علنية.
أعتقد أن الحالة الأمريكية الراهنة يجب أن تكون رسالة إلى عالمنا الثالث، الذى اعتادت شعوبه على المفاجآت، بدعوى التفويض، رسالة بأهمية إرساء القيم الأخلاقية فى العلاقة بين الحاكم والمحكوم، رسالة بأهمية دور الإعلام فى هذه العلاقة، ذلك الدور الذى اختفى تماماً فى بعض البلدان، لحساب الصوت الواحد، وأصبحت الشعوب تتابع أخبار أوطانها من خلال وسائل إعلام ليست محلية، أو من خلال مسؤولين من خارج الوطن، لتتحول وسائل الإعلام لديها إلى مجرد ناقل لبيانات النفى والتوضيح والتكذيب.
لننتظر ما سوف تسفر عنه ممارسات أو أكاذيب ترامب، وما سوف يسفر عنه حراك الشعب الأمريكى، بالتأكيد هناك من التداعيات الكثير والكثير، التى سوف تحمل معها لدول العالم الثالث المزيد من الرسائل التى تؤكد وحدة الكيمياء، مهما تباعدت المسافات.
عن المصري اليوم