كنت أتهيأ لإجراء حوار مع قناة تلفزيونية على معبر رفح حول العلاقات الفلسطينية المصرية، وفجأة سألني المراسل إذا كنت قد علمت بنتائج انتخابات "حماس" الداخلية، حيث وصلتهم للتو الأخبار بأن يحيى السنوار هو من فاز بقيادة المكتب السياسي في قطاع غزة .
التزمت الصمت، إذ كان الخبر حقيقة مفاجأة لي، وكانت تقديراتي أن حكمة حماس ستأتي بوجه سياسي لقيادة الحركة، وليس برجل من دائرة الأمن والعسكر، لاعتبارات كثيرة منها سد باب الذرائع أمام إسرائيل لإلباس قطاع غزة ثوب الشيطان، وتسويق مقولتها لأهل القطاع بالتطرف والإرهاب .
بعد أن أنهيت المقابلة، اتصلت ببعض الإخوة المقربين للتوثق من صحة الخبر، فكان الرد بالإيجاب، وإن كان أصحابه – أيضاً - لم يخفوا استغرابهم من تلك النتائج.
لم يتوقف الهمس وأحاديث المجالس بين الكثير من النخب والقيادات، وحتى الكوادر العادية في حركة حماس. نعم، كانت هناك كولسات في العملية الانتخابية تحدث البعض عنها، وأخذت طريقها إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تنجح كل التحذيرات والاجراءات العقابية التي اتخذتها اللجان الرقابية في الحركة من منع ذلك.
بصراحة، كانت هناك توجسات لدى البعض - وأنا منهم - بأن إخواننا في العسكر يخططون للتحكم والاستحواذ على مفاصل الحركة وقراراتها، ولكن قراءاتنا للمشهد بعمق وبصيرة كانت تدفعنا للقول بأن هؤلاء الإخوة لديهم ما يكفيهم من الأعباء والانشغالات والتحوطات الأمنية ما يجعل مثل هذا القرار يفتقر إلى الحكمة، لأنه سيضعهم في مواجهة مباشرة مع الناس، بعد أن كان المستوى السياسي يتحمل كل ما تطرحه ضغوطات الواقع المأساوي من زفرات ونفثات غضب ولعنات، واتهامات بالعجز والتقصير، الأمر الذي سيجعلهم دائماً في مرمى "إلا من ظُلم"، حيث الجهر بالسوء والتجريح، وانتهاك حرمات المقاومة وعتباتها المقدسة، والتطاول على ما تتمتع به من مكانة وما لها من ستر النبل والطهارة، التي لا يختلف عليها ابن الحركة أو جمهور الناس.
ظهرت النتائج يوم 13 شباط 2017، وبقي الجدل على كل المستويات الحركية، بين مرحب ومذهول، وبين مستبشر ومتخوف، وبين قلق ومطمئن، وبين سائل ومجيب.. وفي النهاية، كان السؤال المركزي من وراء كل هذه الضجة أو الصدمة، هو: أين سيأخذنا السنوار في أفكاره واجتهاداته؟ وهل نحن بانتظار حرب على الأبواب تُعمق جراحاتنا ومآسينا، أم أننا على مشارف عهد جديد ستسود فيه الحكمة وتغليب لغة العقل والوعي بالأولويات وفقه المآلات ؟
لا شك بأن كل ما يدور في الشارع من لغط وتخوفات يُعذر الناس فيه، حيث إن الكثير مما نحن فيه من أوجاع ومسغبة إنما هو نتاجٌ للحروب الثلاثة السابقة، والتي لم نتشافَ من عقابيلها بعد، وما زالت الظروف المتعلقة بحالتنا الفلسطينية المتعثرة تزداد سوءاً، حيث المصالحة على عثارها تراوح مكانها، وتتعمق جراح الانقسام، كما أن عمقنا العربي والإسلامي مشغول عنا بصراعاته الداخلية وحروبه الطائفية، التي لا يبدو أن هناك في الأفق نهاية سريعة لها، كما أن المجتمع الدولي ما زال ظالماً في مواقفه ومختل الموازين في تعاملاته مع قضيتنا، أما إسرائيل؛ دولة الاحتلال المارقة، فهي تدفع بكل السبل لتأبيد الانقسام وضم الضفة الغربية، ولا تبدو قياداتنا السياسية في وارد القدرة أو الرغبة على جمع الشمل.
في ظل هذا الواقع البالغ التعقيد والضعف وهوان أمتنا على الناس، فإن الحديث عن حروبٍ قادمة يصبح تهوراً ومغامرة طائشة!!
ولكن السؤال الآخر، من قال أن مجيء السنوار يعني أن الحرب هي خيارنا؟!
إن كون شخص بخلفية أمنية ليس معناه أن كل خياراتنا عسكرية، فالتاريخ مليء بالشواهد التي تقول عكس ذلك. فالذي أنهى الصراع في إيرلندا، والذي امتد لحوالي 800 عام كان عسكرياً، وقد جاء به الجيش الجمهوري الايرلندي ليقود فريق التفاوض، فخلع بذلة المحاربين، وأنجز لبلاده الاستقلال. كان "مايكل كولنز" من أشرس المقاتلين في الجيش الجمهوري، ولكنه هو الذي غيَر كل حسابات البريطانيين وقلب معايير معادلاتهم، فرضخوا لمطالب الشعب الايرلندي، وقامت دولة جمهورية إيرلندا.
وفي ساحتنا الفلسطينية كان أبو على مصطفى شخصية بالغة التشدد، ولكنه عندما أصبح في موقع المسئولية اعتدلت حساباته، ولانت عريكته، وغدا أكثر واقعية واتزاناً في مواقفه بحسب ما يقول رفقاء دربه.
إن من أراد أن يفهم السياسية فعليه قراءة التاريخ ؛ لأن مثل هذه الشواهد تمتلأ بها صفحاته، وأنا هنا أحاول - فقط - تبديد وهمِّ البعض الذي يظن بأن السنوار يعني أن الحرب باتت على الأبواب!! فالحرب لن تقع إلا إذا سعت لها دولة الاحتلال، وحينئذ فإن من هو في رأس هرم القرار، سواء أكان هنية أم السنوار، فإنه سيكون جاهزاً للرد والدفاع عن عرين شعبه، مهما كانت المخاوف والتضحيات.
السنوار الذي أعرفه:
الحماسة والجرأة الوطنية
قبل العمل في أطر الحركة الشورية لم أكن أعرف الرجل بالشكل الذي يسمح لي بتقييمه أو حتى الحديث عنه، كنت أعرف أنه من أوائل الشباب الذين تم اعتقالهم على خلفيات عملهم الأمني في رصد وملاحقة العملاء، وهذه تجربة خاضها الكثير من المناضلين، ولكن معرفتي به ظلت مقتصرة على ما يتحدث به من رافقوه في السجون، وكان من بينهم أخي الشهيد (أشرف صالح)، والذي حدثني عنه بعد الافراج عنه في صفقة وفاء الأحرار في أكتوبر 2011، وسألني إن كنت أرغب في الذهاب معه لتهنئته في بيته، ولكن ظروف ما شغلتني، وذهب أخي الذي طلبت منه أن يبلغه سلامي .
كان أخي أشرف يحدثني عمن جاورهم خلال سنوات سجنه، وخاصة في سجن هدريم، وقد ذكر لي أسماء العديد ممن كانوا رفقاء درب خلال سنوات الاعتقال، وقد ذكر من بينهم الأخ يحي السنوار، حيث أثنى على أخلاقه، وسرد لي جانباً من ذكريات السجن معه، وما يعرفه عن شخصيته ومواقفه .
مرت الأيام، فإذا نحن والسنوار يجمعنا إطار رسمي لنلتقي ونتبادل الرأي والمشورة، حيث كنا نختلف ونتوافق بروح أخوية عالية، وكان ملحوظاً عليه في حواراته طبيعة تربيته الأمنية والعسكرية، إذ ليس في رأس اهتماماته إلا المقاومة ونبرة التحدي للاحتلال.
وعلى مدار أربع سنوات جمعتنا العديد من اللقاءات والاجتماعات، والتي تسمح – عادة - للواحد منا بتشكيل رؤيته عن الآخر.
كنت دائماً، ومن خلال خلفيتي السياسية ومعرفتي بالكثير من أماكن الصراع التي زرتها حول العالم، أميل أكثر لوعي السياسيين وحكمتهم في معالجة قضايا بلدانهم، والتي تتطلب وعياً متقدماً وقراءة أفضل وخبرة أوسع لتجنب مهالك الحسابات الخاطئة، وكانت قناعتي بأن الحرب إذا اندلعت فإنها تحتاج شجاعة العسكر وجرأتهم، ولكن منعها والفوز فيها بأقل الأضرار تتطلب نباهة أهل السياسة وحكمتهم.
من هنا، كنت وما زلت على قناعتي بأهليِة رجال السياسة، وقدرتهم في أغلب الأحوال على تحقيق نتائج أفضل وبخسائر أقل.
قد لا يكون السنوار - من وجهة نظري - هو الأفضل للمرحلة التي تمر بها حركة حماس، ولكن تقديراتي تبقى تقديرات، قد تخطئ وقد تصيب، وهناك غيري من يرى في الرجل الخيار الأفضل لقيادة الساحة، وأن لديه من المعطيات والمعرفة بالعدو ما يؤهله للنجاح، وتقديم نتائج قد تذهل المتخوفين أمثالي. لذا، فأنا أدعو له بالتوفيق والسداد، وسيظل قلمي ناصحاً أميناً، يقدم له ولإخوانه في القيادة ما يراه حكمة الرأي وصوابية الموقف.
السنوار في دائرة
الاستهداف الإعلامي
لقد تابعت كغيري كل ما تناقلته الصحافة العبرية عن السنوار من أحاديث أو تناولته من تحليلات، والتي لم تترك صغيرة ولا كبيرة من المعلومات إلا واستحضرتها، وأرهقت وجدان الرجل ومشاعره في كل ما قالته عنه في سياق المبالغة أو الواقع، مستعينة – بالطبع - بما اجتمع لدي الأجهزة الأمنية من ملفات تراكمت تفاصيلها عبر سنوات الاعتقال التي ناهزت ربع قرن من الزمان، كانت بالنسبة لها كافية لفهم وتفهم طبيعة الرجل وأبعاد تفكيره، ومعرفة شخصيته ووشوشات أحلامه، والوعي حتى بشطحات خياله.
إن الأخ يحيى السنوار يشكل لدى البعض لغزاً لم تفك طلاسمه أو تختبر قدراته بعد، وإن من المبكر الحكم على الرجل؛ له أو عليه، فيما المشهد الانتخابي لم تكتمل فصوله حتى اللحظة، ولن نعرف قبل شهر من الآن لمن ستؤول قيادة الحركة، ومن الذي سيخلف الأخ خالد مشعل في ذلك المنصب.
وعليه؛ فالأفضل تأجيل كل التحليلات لحين معرفة من هو الذي سيملأ فراغ الأخ الكبير(أبو الوليد)، فهذا المكان يبقى هو الأهم في تقييم مسار الحركة وتوجهاتها، خاصة وأن هناك وثيقة سياسية جديدة ستكون هي مرجعية الجميع في الداخل والخارج، وفيها الكثير من الإضاءات والمواقف، التي ستكون بمثابة معالم الطريق لكل من سيتولى قيادة الحركة خلال السنوات الأربع القادمة، والذي سيترك لمشهد الحركة القادم البصمة والأثر.
إن من الجدير ذكره الإشارة إلى أن هناك دولتان من دول المنطقة سيكون للسنوار ولحراك غزة دور في صياغة محددات العلاقة معهما؛ مصر وإيران، والتقديرات أن تشهد تلك العلاقة انفراجات خلال الشهور القادمة، حيث إن شريان الحياة يجب أن يبقى قائماً وممتداً باتجاه القاهرة إذا ما أريد لقطاع غزة أن يلتقط أنفاسه، وهذا يستدعي التعاطي مع النائب محمد دحلان بعدما لم تترك حيل وألاعيب إخواننا في رام الله مكاناً لاستمرار جسور الثقة قائمة بيننا. وفي المقابل، فهاك الفريق الآخر من حركة فتح الذي يمد يديه للتواصل والحوار، بمباركة مصرية تشجع على ترميم شكل ما انقطع من علاقة مع صاحب الخصومة التاريخية محمد دحلان.
وحيث إن السياسة لا تحتفظ طويلاً بالعداوات، وتبحث عن المصالح والقواسم المشتركة، فإن بوابة القاهرة ستفتح لإنجاز هذا التواصل، وربما سندخل في عهد من التعاون والتنسيق لتحريك اقتصاد غزة، وتعزيز أمننا المشترك الذي يتهدده الكثير مما يجري من أعمال إرهابية في سيناء.
أما الملف الآخر فهو تحسين العلاقة وتوطيدها مع إيران، وهي الدولة التي حافظت على التزامها المالي للمقاومة وجاهرت بذلك، برغم الخلاف السياسي معها حول ما يجري في سوريا والعراق من نزاعات، ولكنها – وهذه شهادة نسجلها أيضاً للقيادة الإيرانية - لم تقطع التواصل، واستمرت في تقديم كافة أشكال الدعم والإسناد بالحيوية التي لم تسبقها فيه دولة عربية أو إسلامية أخرى.
في الختام.. لا نريد تحميل الرجل فوق طاقته والإغراق في التوقعات، فهو بالتأكيد سيحيط نفسه بخيرة المستشارين الذين سينصحون له ويعملون لترشيد قراراته، وتبصرته بأولويات قطاع غزة واحتياجات أهله العاجلة، وضرورة تجنيبها ويلات الحرب، وإبعاد شبح أوزارها، وأن تكون كل الحسابات هي في صد العدوان، وكشف مخططات من يبحث عن الحرب وجرائمها، ومن الذي يخوض غمار الميدان بالقدر الذي يتفهم فيه العالم حاجة شعب تحت الاحتلال؛ يتطلع للعودة وتقرير المصير.