صدرت مجموعة "سقوف الرّغبة القصصيّة" للأديب محمود شقير عام 2017، عن مكتبة كل شيء الحيفاويّة، وتقع في 172 صفحة من الحجم المتوسّط.
يستعير الكاتب محمود شقير شخصيتي قيس وليلى، اللذين عاشا قصّة حرمان وظلم اجتماعيّ، من التراث العربيّ، ويجعلهما الشخصيّتين الرئيسيتين في معظم أقاصيصه، ويلّقي بهما في عالم الأحلام، حيث لا قيود، ويقودهما في دروب شتّى، يحطما القيود التي لا تفتأ تظهر في طريقهما، لكن لا يلبث الحلم أن يتبدّد سريعا، ليتلفتا إلى الواقع ثمّ يهربا إلى حلم جديد.
"سقوف الرغبة" مجموعة قصصيّة مترابطة، ترسم طريق الإنسان الذي تقيّده أغلال العدو وتحيطه قيود الجهل؛ فينطلق في حلم كاسح يتلوه حلم، حيث لا حدود ولا قيود، ليعيش أدوارا لم يستطع أن يقوم بها في واقعه، وليخترق سقوف الرغبة العارمة، في حياة لا تحدها قيود.
يبني الكاتب من كلماته البسيطة ومضات سريعة، وصورا رائعة مدهشة، تشخّص واقعا، وتحكي عن ماضٍ، وتستشرف مستقبلا ليس في الضرورة مضيئا مشرقا، وإن كانت خيوط الأمل لا تفارقه، ترسم له صورة جميلة إن لم تكن في عالم الواقع فلِمَ لا تكون في الأحلام!
والكاتب يبني قصصه من شخصيّات واقعيّة، وعالم واقعيّ، فهو يذكر أحيانا أماكن معلومة، مثل القدس أو باب العمود، وأحيانا أماكن خياليّة لها معالم واقعيّة، لكنّ هذه الأماكن لها إيحاءات ودلالات رمزيّة، وكذلك هم الشخوص.
ورغم إيجاز القصص وتركيزها، إلا أنها لا تخلو من وصف موجز للمكان، وحوار بين الشخصيّات المغرقة في الرمزيّة. وتتكرّر الرموز في قصة تلو قصّة، حتى تصبح تحكي عن نفسها، وتحلّق بالقارئ في عالم متشعّب، وصور جميلة، ينسجها الكاتب باستخدام حيلة فنيّة لطيفة، ألا وهي أن الشخصيات تحلم، فيستطيع بذلك أن يتخطّى حواجز الأمكنة والأزمنة، ويراوح بين المعقول واللامعقول؛ ليعكس واقعا نراه ونظنّه معقولا، لكن إذا أمعنا فيه وجدناه خارج نطاق المعقول والمقبول، ومستقبلا لا نريد أن يكون بقتامة الواقع، فنحلق فيه بحلم قد لا يتحقّق أبدا، لكن لا بدّ من هذا الحلم، حتّى نستطيع تخطّي ظلمة الحاضر.
وفي الكتاب رموز كثيرة جدّا، قد لا يستطيع القارئ الوصول إلى ما يرمي الكاتب إليه، إلا بعد أن يكرّر القراءة مرّة بعد مرّة، ويرى هذه الرموز تظهر في طريقه مرّة تلو أخرى. فالجنود دائما حاضرون، يقطعون طريق قيس وليلى حتّى في أجمل أحلامهم، وكذلك طائراتهم تخترق السماء، وتمنعهما من التحليق عاليا منطلقَيْن متحرّرَيْن من قيودهم. والجنود رمز للشرّ ورمز للاحتلال الذي يحاصر أحلام أبناء الوطن. والسهل الفسيح يرمز للانطلاق والحرّية، ويقابله الوادي السحيق الذي يشير إلى الأغلال والقيود، وقمّة الجبل ترمز إلى المرتقى الصعب الذي لا بدّ من الوصول إليه. والرصيف هو الطريق الطويل الممهّد الذي قد يقود إلى الحريّة.
والطفل رمز لبعث جديد ومستقبل مجهول وتجرّد من أثقال الدنيا. لذلك فإنّا نرى الطفل يظهر فجأة ويختفي فجأة، ويختلف قيس وليلى على وجوده، فهو يبدو في الحلم ثمّ يتلاشى، وكأنّ المستقبل الذي يتحدّث عنه الكاتب ليس واضحا ولا مضمونا، تعتريه الشكوك، لكن لا يمكن الاستغناء عن السعي إليه، وإرضاعه من ثديّ الأمّ الذي يرمز للعطاء، حتّى يكبر وينتعش ويخرج من براثن العتمة.
تتكرّر صورة الببغاء في كثير من القصص؛ لترمز للثرثار الذي يحسن الكلام لكنّه لا يحسن الفعل. والممرّضة، على خلاف ما عُهد عنها كملاك للرحمة، فإنّها في قصص محمود شقير ليست إيجابية، ويبدو أنها ترمز للعين التي ترقب النّاس وتقف في درب أحلامهم. أما العنزة الرعناء فهي مثال للإنسان الجاهل محدود الحلم والوعي. وجسد المرأة وشعرها الأسود الطويل يرمز للجمال، والعريّ يرمز للحريّة والانطلاق. أما الكهل النحيل فهو الإنسان العادي البسيط الذي يكدح للقمة العيش رغم القهر والظلم، ولا يلتفت إليه أحد ولا يعبأ أحد بحلمه، ثمّ يموت في نهاية المطاف تاركا مذكرات لا أحد يهتمّ بمجرّد قراءتها، وكأنّ هذا الإنسان الذي لم يصل طموحة حدّ الانطلاق نحو الحريّة، لا يعني شقاؤه في الحياة شيئا ما لم يتخلَّ عن سلبيّته، ويسعى بقوّة نحو مستقبل واعد، وإلا سيكون مصيره الغياب في طيّات النسيان. وأخيرا فإنّ المطر يرمز دوما إلى الخيّر، يجمع المحبين، ويهطل لذكرى الشهيد، ويغسل القدس من أدران العدو لتبدو بهيّة جميلة.
ويلخّص الكاتب أحلام قيس وليلى وسعيهم للحريّة في (لحظة فرح) لا تطول:
"تعبنا ونحن نحصي مآسينا
وحين ظفرنا بلحظة فرح
ذهلنا، ثمّ أفرطنا في البكاء" ص 137
ويتخلّى الكاتب عن الأحلام لتكون قصتة الأخيرة (حاجز) حقيقة وليس حلما، حيث ينتظر قيس وليلى خلف حاجز لجنود الاحتلال طويلا، لكنّ حركة الحياة خلف الحاجز تستمر، أما "الجنود الغرباء، فقد بدوا متعبين خلف الحاجز، كما لو أننا نحن الذين نحتجزهم هناك." 160ص