قبل عدة أيام، دعت تركيا إلى اجتماع على مستوى عسكري عال مع الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، بهدف التنسيق الأمني والعملياتي بين هذه الدول في سورية والعراق، والبحث في موضوع تنظيم «داعش» الإرهابي.
أنقرة طلبت هذا الاجتماع، الذي حضره كل من رؤساء هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأميركي والروسي والتركي في أنطاليا، لأنها معنية بالبحث في موضوع الأكراد شمال سورية، خصوصاً وأن الولايات المتحدة قدمت دعماً عسكرياً سخياً لقوات سورية الديمقراطية، وانحازت للأكراد في حربهم ضد «داعش».
حين تضع تركيا موضوع الانحياز الأميركي للأكراد في سياق مصالحها، فإنها ترى أن مثل هذا الانحياز قد يضر في المستقبل بمصالحها الحيوية، لأنها حين تدخلت في سورية عسكرياً وبموافقة ضمنية روسية، فإنها لا تريد أن يكون للأكراد أي موطئ قدم في الشمال السوري.
قبل الاجتماع المذكور، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يؤكد توجه قواته إلى مدينة منبج الواقعة في الشمال السوري، على أساس أنها المحطة التالية للقوات العسكرية التركية بهدف إبعاد الأكراد عنها، غير أن الوجود العسكري الأميركي الأخير في تلك المنطقة، جعل أنقرة لا تستعجل إطلاق عملية عسكرية هناك.
هذا بالضبط ما جعل تركيا تدعو إلى هذا الاجتماع، أي أنها ترغب في التنسيق مع كل من واشنطن وموسكو لضمان عدم حصول أي اشتباكات من شأنها أن تعمق المشكلات بين هذين البلدين، وهو بالضبط التصريح الذي قال فيه بن علي يلدريم رئيس الوزراء التركي: إن بلاده متأسفة لاختيار الولايات المتحدة وحدات حماية الشعب الكردية السورية في القتال ضد تنظيم «داعش» الإرهابي.
واشنطن تضغط على تركيا بالملف الكردي، وهذا أيضاً فعلته روسيا حين أسقط سلاح الجو التركي طائرة روسية فوق الأراضي السورية قبل أكثر من عام، ولذلك يبدو أن الاجتماع الثلاثي العسكري في أنطاليا لن يكون الأخير، ولعلنا نشهد تنازلات تتعلق بالملف السوري.
تركيا ستبذل قصارى جهدها من أجل ضمان إقامة شريط حدودي آمن ونظيف من الأكراد والتنظيمات الإرهابية، ولا يعني اتفاقها مع واشنطن على ضرورة إنشاء مناطق آمنة في سورية، أن الطرفين في الملف السوري «سمن على عسل».
تقبل أنقرة بأن يضرب الأكراد «الداعشيين» وغيرهم من التنظيمات الإرهابية، لكن يجب ألا يكون ذلك على حساب صفقات خفية تستهدف توسيع نفوذهم في الشمال السوري، ولذلك فإن الولايات المتحدة تلعب على هذا الحبل، ويهمها وجود حليف داخلي في سورية يستهدف التنظيمات الإرهابية هناك.
أما روسيا التي استخدمت الملف الكردي في معاداة تركيا إبان فترة جمود العلاقات بين البلدين على خلفية إسقاط الطائرة الروسية والموقف من الملف السوري عموماً، فإنها حافظت على مسافة بينها وبين الأكراد بعد تحسن علاقاتها مع أنقرة.
الغرض من الاجتماع الثلاثي عدا التنسيق بين الأطراف الثلاثة روسيا والولايات المتحدة وتركيا، هو قبول الأخيرة في سورية للاطمئنان على أنها ستحصل على مرادها من حيث تأمين الحدود السورية- التركية.
صحيح أن تركيا تدعم بعض تنظيمات المعارضة المعتدلة في سورية، غير أنها اليوم في موقف مختلف عن السابق، خصوصاً بعد تغير موازين القوة لصالح النظام السوري والأطراف الدولية والإقليمية التي تقف خلفه، ولذلك فتحت أنقرة خطاً للاتصال مع روسيا، ومن ثم تسعى إلى توسيعه ليشمل الولايات المتحدة.
الواقع الميداني يقول: إن قوات «درع الفرات» التي تدعمها تركيا سيطرت على مدينة الباب شمال سورية، غير أنها لم تتمكن من السيطرة على مدينة منبج التي تبعد عن الحدود التركية حوالى 35 كيلومتراً، في حين سلمت قوات سورية الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، خط التماس مع تنظيمات «درع الفرات» غرب منبج إلى القوات الحكومية السورية.
وتكمن أهمية منبج بالنسبة لتركيا في كونها قريبة من حدودها، إلى جانب أن قوات سورية الديمقراطية سعت إلى ربط طرفي نهر الفرات الغربي والشرقي وتوسيع نفوذها على هذه المنطقة، بما يمكنها من السيطرة على مسافة طويلة تبدأ من محافظة الحسكة إلى مدينة منبج في الغرب وجميعها في الشمال السوري وعلى طول الحدود السورية- التركية.
زيارة أردوغان إلى موسكو، أمس، ولقاؤه نظيره الروسي فلاديمير بوتين تصب في هذا الاتجاه، حيث عدا الحديث عن تطوير العلاقات الاقتصادية وإعلان مشروعات حيوية بين الرجلين، فإن أردوغان سيفتح الملف السوري بقوة ويطرح مدينة منبج على نظيره الروسي.
ولا يبدو أن تركيا خائفة كثيراً من الموقف الروسي بقدر خوفها من الموقف الأميركي، لأن الأخيرة إذا تمسكت بدعمها القوات الكردية سياسياً وعسكرياً ومادياً، فإن الحديث ليس بعيداً عن الطروحات التي تخوفت من احتمال تقسيم سورية.
الموقف الأميركي من سورية لا يزال غير واضح، بصرف النظر عن تأكيدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن بلاده ستدعم استهداف «داعش» بقوة، لكن الدور الأميركي في سورية حالياً يتجاوز هذا الموقف ويتوسع إلى حد دعم وحماية القوات الكردية في منبج.
ومرةً أخرى، فإن الأطراف الدولية والإقليمية تلعب في المسرح السوري، في ظل غياب العرب أو ضعف ومحدودية دورهم، خاصةً وأن روسيا لها مصلحة في سورية، وكذلك الحال لدى الولايات المتحدة التي يعجبها كثيراً فكرة تقسيم هذا البلد.
تركيا لها مصلحة في سورية وإيران كذلك، وإلى اليوم يختلف العرب فيما بينهم ولا يقدمون رؤى متوازنة تعكس حضورهم لا في الملف السوري ولا حتى إقليمياً أو دولياً، الأمر الذي يؤكد يوماً بعد يوم عجزهم عن إدارة خلافاتهم وتجنب الوقوع في المحاذير والوديان السحيقة.
وحدها الدول العربية إن أرادت بشكل جماعي، أن توقف أي مساعٍ لتقسيم سورية، ذلك أن الأطراف الدولية الثلاثة الولايات المتحدة وروسيا وتركيا، إذا لم تتفق فيما بينها وتتعاون من أجل مواجهة «داعش» وضمان وحدة وسلامة الأراضي السورية، فإنها قد تذهب في اتجاه خيار التقسيم.
هارتس : البصق.. لغة إسرائيل الرسمية
06 أكتوبر 2023