تكاد ضراوة الأحداث في سورية والعراق تحجب ضراوة ودموية ما يحدث في مصر، وأبعاده المنذرة على كل الوطن العربي. شكلت هجرة، أو بشكل أدق تهجير، المسيحيين الأقباط عن بيوتهم وأملاكهم في سيناء، وبالذات من مدنها الرئيسية، إلى محافظات أُخرى، شكلت ذروةً من ذرى الاعتداءات الإرهابية. فقد حصل ذلك نتيجة لعنف الاعتداءات الإرهابية ضدهم وعدد الشهداء الذين سقطوا منهم، إضافة إلى تركيز الاعتداءات الإرهابية عليهم بوصفهم مسيحيين أقباطاً بشكل مخطط ومدروس وبخلفية طائفية دينية مكشوفة ومعلنة.
الإرهاب يضرب بدمويته في معظم ربوع مصر ومناطقها ومدنها وأحيائها، ويحصد الكثير من أرواح المواطنين الأبرياء، وبأزمان تتقارب كثيراً، مع تركيز واضح على منتسبي القوات المسلحة وأجهزة الأمن، وعلى مواقعهم. لكن تركيز الاعتداءات وكثرتها يبقى في سيناء بالدرجة الأولى، وعلى الحدود الغربية بالدرجة الثانية.
اما سيناء فلاتساع مساحتها وطبيعتها الصحراوية وقلة سكانها وتناثر وتباعد تجمعاتهم من جهة، وامتلاكها حدودا بحرية طويلة تجعل تواصل الإرهابيين وتنقلهم مع الخارج واستلام الأسلحة والمعدات أسهل من جهة ثانية، وعدم سيطرة وتحكم الدولة المصرية على حدودها (سيناء) البرية بالشكل اللازم من جهة ثالثة.
وأما الصحراء الغربية، فما يدفعها الى دائرة التركيز- بالفترة الأخيرة بالذات- إضافة الى طبيعتها الجغرافية، هو ارتباطها المباشر بالاوضاع الصعبة للتنظيمات الارهابية في مواقعها الرئيسية الحالية. ويبدو التركيز كتخطيط من هذه التنظيمات لتصبح الصحراء الغربية قاعدةً رئيسية - رديفة او بديلة- لها. خصوصاً مع توفر إمكانية ربطها مع الوجود الإرهابي لها في الشرق الليبي بما يوفر لها مساحات شاسعة للمناورة ويؤمن لها حدودا واسعة ومفتوحة مع اكثر من دولة إفريقية.
لكن السيطرة على الدولة المصرية تبقى هي الهدف الأساس بكل ما تمثله السيطرة عليها من قيمة استثنائية بذاتها أولا، ولما تفتحه ثانياً، من آفاق واسعة الرحابة للسيطرة على كل المنطقة والتحكم بها.
بنظر قوى الإسلام السياسي، ومن يدعم رؤاهم، فان السيطرة على مصر، بعد أن أحكم إسلاميون سيطرتهم على تركيا، يؤمن إحكام السيطرة على كل المنطقة ودولها في استعادة الى حد ما لدولة الخلافة الإسلامية العثمانية، وهو ما يصب في مجرى مصالح ومخططات القوى التي تدعم رؤى الإسلام السياسي وباتجاه الاتفاق والتعاون معها.
ان ما يحصل في مصر من إرهاب ليس تكراراً عفوياً لما يحصل في بلدان عربية اخرى، ولا هو بفعل وقدرات قوى الإرهاب الذاتية فقط، بل هو ترجمة أولى لمخطط تشارك فيه قوى محلية وإقليمية، ودولية أيضا.
ترجمة ثانية للمخطط، هي الأزمة الاقتصادية الخانقة وما تتركه من آثار على حياة المواطن المصري العادي، وما تثيره من مخاوف تعمقها واكتسابها ابعاداً اجتماعية على شكل قلاقل واضطرابات، بالذات مع التغذية لها من قوى الإرهاب وداعميهم.
ترجمة ثالثة، هي تراجع الدور السياسي لمصر بشكل عام وتراجع تأثيرها في أحداث دول المنطقة وفي وضع جامعة الدول العربية وغياب دورها، وذلك بتأثير إشغالها بمحاربة الإرهاب الداخلي وبأزمتها الاقتصادية، إضافة الى خلق مشاكل لها مع بعض دول الجوار حول قضايا حيوية مثل موضوع مياه النيل والسد الذي تبنيه اثيوبيا.
ودونما استبعاد كلي لإمكانية قصور يعتري بعض اوجه اداء النظام القائم، يبدو بوضوح، ان المطلوب للفترة القائمة هو، على الأقل، استغراق مصر تماما بأمورها حتى يبقى دورها مغيباً عما يجري في دول المنطقة وما يخطط لها من إعادة ترسيم، وربما إعادة تقسيم.
فلا يمكن تصور ان يكون حال المنطقة كما هو عليه الآن لو كانت مصر غير مستغرقة بأوضاعها الموصوفة ولو كانت بحضورها وثقلها الطبيعيين. وهو حال للمنطقة تتحاور فيه وتتفاوض وتدلي بدلوها كل الدول والقوى الدولية والإقليمية، وتتفق وتتحالف وتختلف وتتخاصم، وتجاهر كل منها بمصالحها ومطامعها وتحجز، بوجود تفرضه على الارض، حصتها المرغوبة من كعكة المنطقة عندما يحين موعد القطاف.
يحصل كل ذلك، بلا وجود أو دور مباشر لدول او لدولة عربية، وفي ظل غياب كانتفاء الوجود لجامعة الدول العربية ودورها.
وبشكل اكثر خصوصية، ما كان يمكن ان يكون الوضع السياسي الفلسطيني بهذا الحال من الانقسام وضعف الظهير العربي الذي يستند إليه لو كانت مصر بحضورها وثقلها الطبيعيين.
مخطئ من يطمئن الى هذا الوضع لمصر ويبني عليه، فمصر لها القدرة ولديها كل الإمكانات للخروج منه والعودة الى ثقلها الطبيعي شديد التأثير والى حضورها الفارض لنفسه، من موقع القبول والترحيب الشعبيين.
وفي الوضع الفلسطيني بالذات، لا يجب تحميل مواقف وإجراءات لمصر قد تبدو غير مفهومة او غير مقبولة وربما خلافية، اكثر مما تحتمل، ولا يجب اعطاؤها من التفسيرات والأبعاد بأكثر من دلالاتها واستهدافاتها المحددة. فالموقف المصري تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته ونضاله الوطنيين يصل في عمقه وانتشاره ليشكل مكوّناً من مكونات الشخصية الوطنية للشعب المصري، وبالتالي مكونا استراتيجيا من مكونات مواقف وسياسات الدولة المصرية في جميع المجالات والأصعدة، وفي الصلب منها مركزية علاقتها مع الشرعية الوطنية الفلسطينية ومؤسساتها وهيئاتها.
حركة النضال الوطني الفلسطيني وتعبيراتها الرسمية والشعبية، لا تحتمل الخلاف الجدي مع مصر. يجب ان تكون عندها القدرة على استيعاب بعض المواقف والإجراءات من مصر والمسارعة الى الحوار حولها. وان تكون لديها القدرة، من موقع العلاقة التحالفية الراسخة، على المبادرة الى سد الثغرات وسحب الذرائع وتفسير سوء الفهم وتحديد المطالب.
عين إسرائيل على أنفاق غزة.. أين تخفي حماس الرهائن؟
15 أكتوبر 2023