لا أجد سبباً واحداً، يدعو الفلسطينيين للتفاؤل، بشأن خيار المفاوضات لانتزاع الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، حين اتصل مؤخراً ومتأخراً الرئيس الاميركي دونالد ترامب بالرئيس محمود عباس، انتعشت لدى البعض الآمال بامكانية توفر فرصة اخرى للمفاوضات، قبل ان يسلم الجميع بوصولها إلى طريق مسدود بل محكم الاغلاق.
على أن من يتفحص بعين محايدة، الظروف التي تحيط بمثل هذه الفرصة المزعومة، سيستنتج ان استراتيجية المفاوضات، قد بلغت منتهاها منذ كثير من الوقت، وان استمرار التمسك بهذا الخيار، من شأنه ان يوفر فرصة افضل لاسرائيل لكي تواصل فرض مخططاتها وسياساتها التوسعية.
الادارة الاميركية الجديدة سترسل مبعوثها لفحص امكانية استئناف المفاوضات، بين الطرفين، لكن هذه الادارة مدينة للطرف الفلسطيني، بأن تجيب عن بعض الاسئلة الصعبة التي سيكون للادارة، ان تقرر اذا ما كانت مؤهلة للامساك بالملف مرة اخرى أم ان ما تقوم بفعله لا يستحق عناء المحاولة.
اذا كانت الادارة السابقة، قد واصلت الالتزام برؤية الدولتين، وسمحت بتمرير قرار مجلس الأمن رقم ٢٣٣٤، الذي يدين الاستيطان، ورفضت نقل السفارة، الاميركية الى القدس، لم تفلح في زحزحة السياسة الاسرائيلية، ووجدت نفسها تخدم تلك السياسة فكيف ونحن امام ادارة جديدة تتبنى السياسة الاسرائيلية بالكامل؟
ما صدر حتى الآن عن ادارة ترامب، قبل وبعد الانتخابات الرئاسية يشكل تراجعاً عن سياسات الادارات التي سبقت فيما يتعلق بالملف الفلسطيني - الاسرائيلي. كيف لهذه الادارة ان تنجح في اقناع او ارغام الطرفين على العودة الى طاولة المفاوضات فيما هي غير مقتنعة بحل الدولتين، وترى أن مثل هذا الحل ليس الوحيد المتوفر لتحقيق السلام؟
كيف لهذه الادارة ان تنجح في اقناع او ارغام الطرفين على العودة لطاولة المفاوضات فيما هي لا ترى أن الاستيطان يشكل عقبة امام تحقيق السلام، بل هي تسعى لنسف قرار مجلس الامن رقم ٢٣٣٤، وكيف لها ان تنجح فيما وفد الكونغرس اجرى معاينة لموقع بناء السفارة الاميركية في القدس؟
أي وسيط هذا الذي يأمل بأن يحقق السلام، وان ينجح اين فشل من سبقوه من الرؤساء، وهو فاقد للرؤية، فاقد للبصر والبصيرة، ويؤكد انه لن يسعى لفرض التسوية على الطرفين، على اعتبار أن التسوية ستنجم عن المفاوضات الثنائية؟
لقد جرب من سبقوا الرئيس ترامب كل ما لديهم، وما لديهم كان افضل كثيرا مما لديه، لكنهم فشلوا فشلا ذريعاً، ذلك انهم في البداية والنهاية يلتزمون بكل ما يصدر عن حكومة اليمين المتطرف في اسرائيل، اما هو فإنه لا يكتفي بالالتزام وانما بتبني السياسة الاسرائيلية.
من الواضح ان الادارات الاميركية لا تسمح لنفسها بالتخلي عن احتكار هذا الملف وان تمنع كل طرف آخر، لكي يأخذ مكانها، ولذلك فإنها تتبع تكتيكا سياسياً، ليس اكثر لمواصلة التحكم في هذا الملف، خدمة لاسرائيل وللتغطية على سياساتها، واعطائها المزيد من الوقت لاستكمال ما تقوم بتنفيذه.
في ظل معطيات كهذه فإن الامر معروف مسبقا ذلك ان هذه الادارة لا تملك الحجة لاقناع الفلسطينيين والعرب بجدوى ما تقوم به والعودة الى طاولة المفاوضات؛ ولذلك فإن الشيء الوحيد المتوقع انها ستمارس الضغط الشديد على القيادة الفلسطينية.
من جانب آخر يملك كل طرف الفلسطيني والاسرائيلي ما يمنع العودة للمفاوضات اللهم الا اذا ابديا استعدادا لتقديم تنازلات لا يبدو أن ثمة امكانية لتقديمها بما يسهل العودة الى المفاوضات.
الطرف الفلسطيني يرفض العودة لمفاوضات مفتوحة على الوقت وعلى الاجندة، ودون مرجعية ويرفض ايضا العودة للمفاوضات في ظل استمرار سياسة الاستيطان والتهويد.
اما الطرف الاسرائيلي فهو يرفض قطعيا وقف الاستيطان ويشترط موافقة الفلسطينيين على يهودية الدولة، وعلى ان تحظى اسرائيل بالسيادة الامنية الكاملة على الاراضي الفلسطينية المحتلة.
المسألة بالنسبة لاسرائيل ليست تكتيكا تفاوضيا، وانما هي سياسة اصيلة محكومة بطبيعة السياسات التي يقوم عليها التحالف الحاكم، ومحكومة بتفاصيل واجراءات يومية لا تتوقف اسرائيل عن فرضها على ارض الواقع.
قد يؤدي تواصل الفلسطينيين مع الادارة الاميركية الجديدة، مدعومة بجهد عربي إلى تعديل بعض المواقف أو إلى تأخير بعض القرارات، ولكن من غير المتوقع ان يصل هذا الجهد إلى مستوى ارتداد السياسات والمواقف الاميركية الراهنة إلى ما كانت عليه خلال مرحلة الرئيس السابق باراك اوباما فما الجدوى عندئذ من المحاولة؟
في الواقع وفي ظل هذه المعطيات فإن هذا يرتب على الفلسطينيين ان يفعلوا كل ما يملكون من اوراق، فورا طالما ان اسرائيل لا تتوقف عن سياساتها التدميرية.
من غير المعقول مثلا ان يخضع الفلسطينيون مرة اخرى لضغوط اميركية تطالبهم بعدم التوجه الى المحكمة الجنائية الدولية، والى مؤسسات الامم المتحدة.
من غير المعقول ايضا ان ترمي القيادة الفلسطينية ببيضها كله في السلة الاميركية، وان تتخلى عن جهدها في تنشيط وتصعيد الدور الاوروبي بصدد هذا الملف.
ومن غير المعقول ايضا ان تستمر هذه الفوضى، وهذا الانقسام الذي يضعف اي استراتيجية وطنية فلسطينية.
لقد جرب الفلسطينيون الاستجابة للضغوط الاميركية، لكن النتيجة كانت دائماً انهم يخسرون المزيد من الوقت، لصالح اسرائيل التي تستغل كل لحظة لمواصلة سياساتها الاحتلالية والتوسعية.
وفي تقييم مدى استعداد اسرائيل لخوض مفاوضات على اساس قرارات الامم المتحدة ورؤية الدولتين، فإن النتيجة التي لا يخطئها العقل تفيد بأن اسرائيل ليست في هذا الوارد مطلقاً.
تسعى اسرائيل إلى تهيئة كل الظروف والعوامل، لاقامة الدولة الفلسطينية في غزة، اما القدس فهي مصادرة ومصادرة ايضا الضفة الغربية ابتداء من مناطق (ج)، حتى لو أن ذلك سيؤدي إلى قيام دولة ابارتهايد كما يتوقع وزير الخارجية البريطاني الذي اعلن ان تغييب حل الدولتين سيقود إلى مثل هذه الدولة.
وبصراحة فإن سياسة نزع الذرائع قد استنفدت كل ما يمكن تحقيقه ولذلك، لم يعد امام الفلسطينيين سوى الاسراع في ترتيب البيت الداخلي واشتقاق استراتيجية وطنية جديدة، والا فإن الاوضاع تتجه نحو المزيد من التدهور الوطني على مختلف الصعد.