كما توقعنا، في مقالات سابقة، لم يشذ الرئيس الأميركي عن قاعدة الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه، والذين عادة ما يطلقون الشعارات الرنانة حين يترشحون لانتخابات الرئاسة، لكنهم سرعان ما ينسونها حين يدخلون البيت الأبيض، وبعد أن أحجم عن اتخاذ القرار الخاص بنقل سفارة بلاده من "تل أبيب" إلى القدس، تركزت العيون على الموقف الأميركي حيال طبيعة حل الصراع الفلسطيني / الإسرائيلي، حيث كان دونالد ترامب أعلن عدم تمسكه بحل الدولتين كموقف طالما تمسكت به واشنطن خلال عقدين من الزمان.
في هذا الخصوص، كان ترامب المرشح أعلن انحيازاً مثيراً للجانب الإسرائيلي، المتمثل بحكومة اليمين المتطرف، حين قال، وعلى عكس مواقف بلاده السابقة: إن المستوطنات لا تشكل عقبة في طريق الحل ولا في طريق التفاوض، كما حذر السلطة من اللجوء للقضاء الدولي، وقال: إنه غير متمسك بحل الدولتين، ثم لوحظ التراجع في لهجته بعد دخوله البيت الأبيض وأدائه القسم كرئيس خامس وأربعين للولايات المتحدة، فحتى وهو يستقبل بنيامين نتنياهو، أعلن أنه مع الحل الذي يتوصل له الطرفان، أياً يكن حل الدولتين أو غيره.
في الحقيقة، إن التصريحات الأميركية عادة ما تخضع لاعتبارات عديدة، فإن كانت تتعلق بالسياسة الخارجية، فإنها تأخذ بعين الاعتبار مواقف الحلفاء، وربما كانت واشنطن واحدة من الدول القليلة في العالم التي تفعل أكثر مما تقول، أو حتى غير ما تقول، المهم هو أن أسوأ ما كان في موقف ترامب هو "تجاهله" للسلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، الأمر الذي قرئ على أنه موقف لا يليق بأقوى دولة في العالم، خاصة وأنها الراعي الوحيد للعملية السياسية بين فلسطين وإسرائيل منذ توقيع اتفاقات أوسلو في البيت الأبيض عام 1993.
لذا جاء الاتصال الهاتفي الذي أجراه ترامب بالرئيس عباس، ليشير إلى أن ترامب بدأ يتصرف كرئيس مسؤول للولايات المتحدة، ترك وراء ظهره ترامب المرشح الرئاسي، الذي مارس الكثير من الصخب السياسي، لإثارة الرأي العام الانتخابي وليحقق فوزاً كان يبدو بعيد المنال!
رغم أن الاتصال الهاتفي هو غير الاستقبال الرسمي في واشنطن، والذي كان يبدو منطقياً أن يجري بعد أيام من استقبال الرجل لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، حتى يقف على حدود الموقف من الملف المركزي للصراع في الشرق الأوسط من جانبيه، وليس من جانب واحد، ورغم أن الحديث يجري عن أن الزيارة ستكون في حزيران القادم، أي بعد نحو ثلاثة شهور، وهذا يعني وقتاً طويلاً، إلا أن الاتصال بحد ذاته جاء مطمئناً للقيادة الفلسطينية، التي ظنت أن تراجع واشنطن عن حل الدولتين، سيعني مباركتها لإسرائيل بالذهاب لحل من جانب واحد، وهذا يعني أو يتطلب "تجاهل" الجانب الفلسطيني تماماً، والذي لا يمكنه أن يقبل ما هو أقل من إنهاء احتلال القدس والضفة الغربية وإقامة دولة فلسطين على حدود 67، إلى جانب إسرائيل، وهذا هو جوهر ولُبّ حل الدولتين.
كما أنه يمكن أن يقال أيضاً: إن "الاتصال الهاتفي" جاء من أجل نزع فتيل اليأس من عقل وقلب القيادة الفلسطينية، وبهدف إحباط همتها في التركيز على الوضع الداخلي، كذلك على الكفاح القانوني والقضاء، ويمكن أن يقال: إن الاتصال جاء قبل أسابيع قليلة من عقد القمة العربية، خشية من أن "يخرج" موقف "متطرف" عن القمة، رغم أن هذا أمر مستبعد بالنظر إلى دورات القمة السابقة.
لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما كان بدأ ولايته، بوعد علني، وبعد أن صار رئيساً بالتصالح مع العالم الإسلامي وبإعلان "الدولة الناقصة" في المنطقة، أي الدولة الفلسطينية، وخلال ثماني سنوات لم يتقدم قيد أنملة على هذا الصعيد، لذا فإن أوهام الإسرائيليين مع ترامب، ربما تعيد إلى الذهن أوهام العرب _ المسلمين _ والفلسطينيين تجاه أوباما.
كذلك لا بد من التذكير بأن الرؤساء الأميركيين عادة ما يبدؤون عهدهم بهمة ونشاط يظل قائماً طوال الولاية الأولى، لكنه يكاد يختفي مع مرور الوقت، ويظهر كما لو لم يكن موجوداً في الولاية الثانية، حيث يصبح الرئيس ذا خبرة رئاسية، ويركز على الوضع الداخلي لمواجهة استحقاق انتخابات الكونغرس وما إلى ذلك، وربما هذا ما يفسر فشل كلا الحزبين بالفوز بولاية ثالثة متتابعة، إلا ما ندر!
المهم الآن، أن ترامب بدأ يتصرف كرئيس أميركي مسؤول، يفكر في مصالح بلاده، وفي الإبقاء على مكانتها في قيادة العالم، خاصة وأنه تولى المهمة، في وقت أصعب من سابقيه، من جهة ظهور ندين (روسيا والصين) يتحدون الزعامة الأميركية المنفردة للعالم.
والمهم بالنسبة لنا كفلسطينيين، هو أنه رغم استماعه جيداً لنتنياهو، إلا أنه ما زال يفكر في طبيعة الحل، والرجل بنفسه كان أكد للرئيس عباس أنه في مرحلة تكوين الرؤية وتحديد الإطار للعملية السياسية، وأنه مصمم على التوصل إلى تسوية وفق ما أسماه بالصفقة الكبرى، وأنه أعدّ من أجل ذلك فريقاً لتحقيق هذا الغرض.
ما هي طبيعة وأبعاد وجوهر هذه الصفقة الكبرى؟ وهل يمكن أن تذهب واشنطن إلى فرضها حين تقتنع بها على الطرفين؟ هذا ما لا بد من متابعته والتفكير فيه، وحيث إن السياسة لا تأخذ شكلها ببعد واحد، فلا بد من فعل فلسطيني سياسي وميداني مناهض للاحتلال، حتى تتعزز حظوظ إقامة الدولة المستقلة، وحتى لا يجد الجميع أنفسهم ذاهبين لمسار آخر حتى لحل الدولتين من نمط أن تكون دولة غزة الموسعة مثلاً إلى جانب دولة إسرائيل هي الترجمة لحل الدولتين، وكما أن إسرائيل ورغم كل ما تحيطه بها واشنطن من رعاية إلا أنها تذهب لموسكو لتحسين مواقفها وخياراتها، لذا جدير بنا أن نفتح كل الأبواب التي تقترب بنا من لحظة إنهاء احتلال إسرائيل للقدس والضفة الغربية وحصارها لغزة.