منذ أن خرجت التسريبات على ألسنة البعض من حركة "حماس" بأن هناك وثيقة سياسية جديدة، وأنها ستكون عند صدورها بمثابة الرؤية المرجعية التي يلتزم بها الجميع في خطابه الفكري والسياسي، والأرضية لاستراتيجية التحرك واتجاه البوصلة النضالية، وخارطة الطريق التي تعيد التأكيد على ثوابت الحركة فيما يتعلق بطبيعة الصراع مع الاحتلال ، وما تتطلع لتحقيقه من أهداف مرحلية، يمكن أن تحقق الاستقرار والأمن - النسبي - على المستويين المحلي والإقليمي، كما أنها سوف تضع النقاط على الحروف في سياق العلاقة مع المجتمع الدولي والفضاءات العالمية ، التي تمثل رافعة مهمة لقضيتنا الوطنية، وتتحرك بصحوة ضمير لنصرة مظلومية الشعب الفلسطيني والتضامن معه، فيما يدعم حقه في الاستقلال وتقرير المصير .
كما أن هذه الوثيقة السياسية الجديدة، وإن كانت ما تزال في طور التدقيق والمراجعة، ولم تأخذ شكلها النهائي بعد، وهي بانتظار الانتهاء من انتخاب رئيس المكتب السياسي، الذي سيخلف خالد مشعل على قيادة الحركة، والذي سوف يتولى إقرار هذه الوثيقة والإعلان عنها .
ولكن علينا الاعتراف بأن ما ورد في تلك الوثيقة يعتبر بعضه استراتيجيا وواقعيا ، لأنه يحقق التوافق الوطني، وينسجم مع ما جاء في القوانين الدولية، ويبتعد عن كل المآخذ التي سجلها البعض على ميثاق 1988، واستغلتها ماكينة الدعاية الاسرائيلية للتشهير بحركة "حماس" والتحريض ضدها.
فالوثيقة ضمن الملامح التي نعتقد أنها سوف يتم تظهيرها في صورتها النهائية لن تبتعد في ثوابتها عما جاء في ميثاق 88، وإن كانت التعديلات ستشمل توضيح الموقف بأن الصراع هو بالدرجة الأولى مع المحتل ومع المشروع الصهيوني، الذي يعمل على تفريغ الأرض من ساكنيها، ولديه أجندة استعمارية قائمة على الغاء الهوية الفلسطينية ومصادرة الأرض وطرد أهلها منها .
فأنا كفلسطيني – ومن وجهة نظر حركة حماس - اتحرك في إطار برنامج ومشروع وطني لتحرير الأرض والمقدسات، وفي سياق رؤية إسلامية تنظر للعمق الاستراتيجي للأمة كقوة فاعلة لدعم ونصرة فلسطين ، الشعب والأرض، كونها تمثل القضية المركزية والجوهرة المفقودة لأمتنا، وعلى كاهل شعوبها تقع مسئولية الذود عنها وتحريرها .
لقد اخرجت حركة "حماس" في وثيقتها السياسية الجديدة اليهود الذين هم خارج دائرة الاحتلال ومعادلة العدوان من حسابات العداء ، كون الكثير منهم هم أصلاً ضد المشروع الصهيوني لاعتبارات دينية واخلاقية، ويقف بعضهم الى جانب الحق الفلسطيني، كما ان بعضهم هم ممن عاشوا على هذه الارض، وفرضت عليهم الحركة الصهيونية اتباع اجندتهم العنصرية والعدوانية، وكان الآلاف منهم قبل مئة عام يعيشون بيننا كأقلية دينية، وتحكم علاقاتنا معهم مع غيرهم من الطوائف الدينية الأخرى ما ورد في "الوثيقة العمرية" و"وثيقة المدينة"، والتي ملخصها " لهم ما لنا، وعليهم ما علينا".
وقد أوضحت الوثيقة السياسية الجديدة كذلك بأن صراعنا مع الاحتلال هو على أرض فلسطين، ولا نستهدف في مقاومتنا أحداً من هؤلاء اليهود الذين يقيمون خارج أرضنا المحتلة.
كما أن الوثيقة - بدون شك - المحت الى موضوع الدولة على حدود 67 كحل مرحلي توافقي، دون ان تعطى أي شرعية للاحتلال على باقي الارض الفلسطينية، ودون التنازل عن حق اللاجئين والنازحين للعودة الى ديارهم، والتأكيد على رفض الاعتراف بهذا الكيان المحتل .
ميثاق 88: قراءة في جوهر الرؤية والرواية ....
لم تتوقف دولة الاحتلال يوماً عن إدانة حركة "حماس" بالعنصرية ومعاداة السامية، واتهامها بالتطرف والإرهاب، وقد عملت على توظيف بعض النصوص التي وردت في الميثاق - خارج سياقاتها - للبرهنة على ذلك.
قامت إسرائيل بترجمة الميثاق فور صدوره إلى عددٍ من اللغات العالمية وخاصة الإنجليزية والفرنسية، وتسويقه - بعد إجراء الكثير من التحريفات لنصوصه - إلى كافة المحافل السياسية والإعلامية والأكاديمية في الغرب، لحشد موقف دولي يتفهم ذرائعها الأمنية ويقف إلى جانب ممارساتها العدوانية، ويغض الطرف عن الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها بحق الفلسطينيين، والتي يعاقب عليها القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني؛ باعتبار أنها جرائم حرب، وجرائم بحق الإنسانية.
ومن خلال موقعي في الحكومة كمستشار سياسي لرئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية في الحكومتين العاشرة والحادية عشر(حكومة الوحدة) أو حتى بعد الأحداث الدامية التي وقعت في حزيران 2007 والتي عملت فيها وكيلاً لوزارة الخارجية، لم تتوقف الأسئلة على ألسنة الصحفيين والسياسيين التي تتعلق بالميثاق، ومدى تمسك الحكومة أو عملها بالنصوص التي وردت فيه.
وبالرغم من الإيضاحات الكثيرة والشروح المطولة بأن الحكم على "حماس" يجب أن يتم النظر إليه من زاوية الواقع القائم والخطاب السياسي للحكومة، إلا أن عملية غسيل الدماغ التي قامت بها ماكينة الدعاية الاسرائيلية على مدارعقدين من الزمان أو أكثر ، جعلت الكثيرين منهم غير قادرين على رؤية التحولات التي تجري على الساحة الحمساوية، والإصرار على التعاطي مع المسألة بمنطق "عنزة ولو طارت"، كما نقول في أمثالنا الشعبية.
ميثاق 88: الحقيقة والواقع ....
عندما انطلقت حركة "حماس" في مشروعها المقاوم للاحتلال في كانون الاول 87، ونجحت في تحريك الساحة الفلسطينية للوقوف معها في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية والتصدي لجيش الاحتلال في ملحمة الانتفاضة البطولية ، كان عليها إيجاد صياغة فكرية لمشروعها الجهادي، يُلهب مشاعر الجماهير، ويلهم قادتها الميدانيين على الحشد والتعبئة لاستمرارية المواجهات، وتثمين عطاء الشهداء والجرحى وتضحيات المعتقلين والأسرى، ويرسم الخطوط العريضة لوعي الجيل المقاوم بالتحديات التي تنتظره في صراعه مع الاحتلال .. من هنا ولدت الفكرة، وكان الاجتهاد.
إن ميثاق "حماس" كان - في الحقيقة - ردّاً على واقع الاحتلال الظالم، وهو وإن كان وجهة نظرٍ لأحد أهم شيوخ الحركة المخضرمين، إلا أنه قد تمت المصادقة عليه داخلياً في ظل ظروف الانتفاضة الاستثنائية عام 1988؛ باعتبار أنه وثيقة مطلوبة للتعبئة والحشد ضد الاحتلال ، ولم يتم التدقيق - آنذاك - في بعض مفرداته الدينية والسياسية من وجهة نظر القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني بشكل عام.
لقد تدارس الإخوة في التسعينيات إمكانيات تعديل الميثاق واعتماده كـ"منفيستو" يلتزم الجميع بخطوطه العريضة، إلا أن الخشية من الاتهام بأن حركة "حماس" تحذو حذو حركة "فتح" في تقديم التنازلات، هي التي جعلت الحركة تتوقف طويلا أمام اتخاذ مثل هذه الخطوة، واستبدالها بطرح أفكار جديدة عكست انفتاح الحركة بشكل أوسع تجاه المجتمع الدولي، وتقديم رؤى سياسية أكثر واقعية أبرزها قادة الحركة في خطاباتهم، وكذلك في البرنامج الانتخابي لكتلة " التغيير والإصلاح" منذ زمن ليس بالقليل .
ومع ذلك نقول: إن الميثاق - بشكل عام - كان الأرضية التي تحددت عليها الكثير من معالم الصراع مع المحتل ، وذلك بصورة لم تكن مسبوقة بهذا الوضوح والصراحة.. وعلى أي حال، فإن المقولات التاريخية تبقى مقولات تاريخية، والميثاق - كوثيقة تمت كتابتها في زمن الانتفاضة الأولى- تبقى له قيمته الاعتبارية، مع التأكيد على أنه ليس دستوراً أبدعته الحركة ومطلوب الأخذ بحرفيّة نصوصه، بل يمكن القول إن الحركة قد تجاوزت – إلى حدٍّ ما - الميثاق بمشاركتها في العملية السياسية، وقبولها بدولة فلسطينية على حدود عام 67، واستعدادها للتعاطي مع الرؤى والحلول السياسية المطروحة من قبل المجتمع الدولي، وكذلك بانفتاحها على محيطها الإقليمي، وتشكيلها لحكومة وطنية خرجت من رحم سلطة أوسلو، بعد أن شاركت في الانتخابات التشريعية 2006 وفازت فيها بالأغلبية.
الرؤية والموقف ....
إن كل هذه المؤشرات السابقة هي دليل على أن حركة "حماس" لديها من المرونة والاتساع للتكيف مع متغيرات الواقع، دون أن تتراجع عن ثوابتها الوطنية من ناحية، وبما يكفل لها حماية منظومة القيم والمبادئ، واللحاق بقطار التغيير المناسب - إن وجد - من ناحية أخرى.
إن موقفنا كحركة "حماس" - سواء أكان في ميثاق 88 أو الوثيقة السياسية الجديد سوف يتبلور في النقاط الآتية:
1- إن الحقوق التاريخية تبقى حقوقاً تحفظها الأجيال، والتدافع سيبقى قائماً لاسترداد هذه الحقوق، والمسألة مرتبطة بالإمكانيات وبتوازن القوى في المنطقة.. إن شعبنا لم ينكر يوماً أن اليهود والمسيحيين هم أحد مكونات الشعب الفلسطيني وأرضه فهي تاريخياً أرض كل الأنبياء، ولكن أن يتم الاعتداء من قبل طرف على أملاك ومقدسات الآخرين استقواءً بجهات خارجية وادعاءات دينية باطلة، فهذه مسألة مرفوضة، ولن تقبل "حماس" بذلك ولا أية جهات فلسطينية تتمتع بمصداقية وطنية.
2- إن هناك فرقاً بين أن يتم الضغط عليك للقبول والتسليم بواقع ما - أملاً في خلق ظروف أفضل لشعبك وقضيتك - وبين أن تصل إلى حقك بالشكل الذي يحفظ كرامتك ويحمي مقدساتك.. إن محاولات ترويض "حماس" للسير على خطى حركة "فتح" : " الاستدراج والتنازل خطوة خطوة" لن تؤتي أُكلها، فالضوابط التي تحكم قرارات الحركة من خلال أطرها الشورية ستبقى هي السياج الذي يحمي لفلسطين قدسيتها، وللشعب الفلسطيني حقوقه التاريخية في سياق آليات الصراع ، سواء أكانت دينية أو سياسية.
3- إن صراعنا الحالي مع الاحتلال هو صراع سياسي ، ولكنَّ حركات التحرر الوطني تلجأ - في العادة - إلى موروثها الديني في عملية الحشد والتعبئة، باعتبار أن ذلك هو المحرك لاستنهاض طاقات الأمة وتحفيزها للبذل وتقديم التضحيات. ونحن من جانبنا نعمل - بلا شك - على توظيف المحطات التاريخية للصراع مع الاحتلال ، بما يخدم مرحلة التصدي لمشروعهم، وما يوفر لنا الأرضية الصلبة لمغالبته والانتصار عليه.
4- إن "حماس" هي حركة تحرر وطني برؤية إسلامية، وهي ترى أن الصراع في بعض جوانبه يتضمن أبعادًا دينية لا يمكن تجاهلها، باعتبار أن أرض فلسطين هي وقف إسلامي لا يمكن التفريط بشبر منها، وأن معادلة الصراع اليوم هي أن هناك حقوقاً مغتصبة يجب أن تعود إلى أهلها - سلماً أو حرباً - ولا تملك أي جهة سياسية التنازل عن هذه الحقوق، دون الرجوع إلى الإطار الوطني الجامع، ليتخذ الموقف الذي يحمي المصالح العليا للشعب الفلسطيني.
5- إن بيت القصيد وحجر الزاوية في هذه المسألة هو أن الحقوق الفلسطينية لا تسقط بالتقادم، وسواءً أكان لهذا الصراع أبعاداً دينية أم لا، فإن الحقوق يجب أن تعود لأهلها إما عبر اتفاقية سلام تسوي حالة هذه الحقوق أو يبقى الصراع مفتوحاً لأجيال قادمة، حيث تتغير موازين القوى بالشكل الذي يسمح بتحقيق ذلك.
6- إن حركة "حماس" ترى أن لهذا الصراع أبعاداً دينية وسياسية وقانونية وأمنية وأخلاقية، ولكن القضية في جوهرها تبقى هي قضية حقوقٍ تمّ استلابها، ولابدّ أن تعود هذه الحقوق لأهلها، خاصةً وأن المجتمع الدولي لم ينكر ذلك، بل يدعو إلى إيجاد حلٍّ لمشكلة اللاجئين، وهناك قرار أممي بهذا الخصوص، صادر عن الأمم المتحدة (UN-194) يطالب بعودتهم وتقديم التعويض لهم.
7- نحن من طرفنا قلنا إن هذه الأرض المباركة كانت مهداً للرسالات السماوية الثلاث؛ اليهودية والمسيحية والإسلام.. وهذا يعني أن أتباع هذه الرسالات تواجدوا على أرض فلسطين في أحقاب تاريخية مختلفة، وبالتالي فإن وجودهم على هذه الأرض – عموماً - لم ينقطع.
8- إن إشكاليتنا في الواقع ليست مع الوجود اليهودي الذي كان قائماً على أرض فلسطين، ولكن مع الحركة الصهيونية التي عملت على اغتصاب الأرض وتهجير أهلها، والدعوة لكل يهود العالم بالقدوم إلى الدولة التي تم إنشاؤها على أنقاض شعب آخر توارث هذه الأرض منذ فجر التاريخ.
9- إن إمكانيات العيش المشترك بين السكان الأصليين على هذه الأرض - بعد ردِّ الحقوق إلى أهلها - يمكن التفاهم حولها، أما التسليم بالوقائع الظالمة فسيظل مرفوضاً وسيبقى شعبنا يقاومه.
10- لا دولة في قطاع غزة، ولا دولة بدون غزة.. حقيقة يؤكد عليها الكل الفلسطيني، وأي تناول في غير هذا السياق هو تضييع للحقوق الفلسطينية، وتنازل عن حق عودة اللاجئين.
هذه هي محددات الرؤية وعناوين الرواية والاعتقاد لدى الإسلاميين بشكل عام، والتي لن تخرج عنها مضامين الوثيقة السياسية الجديدة، بغض النظر عن ملاحظات البعض عمَّا ورد في ميثاق 88، خلال سياق مرحلة تاريخية كانت الانتفاضة ومواجهة المحتل عنوانها الأبرز، وكانت طبيعة الصراع فيها مفتوحة على كل المفردات الدينية والسياسية والنضالية.