أعادتني قصة نشرتها صحيفة «الأوبزيرفر» الأحد الماضي أكثر من نصف قرن، إلى سنين الصبا ومطالع الشباب بقطاع غزة. ربما أعود لاحقاً لتفاصيل ذات صلة، لكن الأولوية هنا للقصة وبطلتها ريهام الكحلوت، التي - وفق ما كتبت الصحافية إيما غراهام هاريسون - يراودها حلم أن تصبح رائدة المسرح الفكاهي بمدينتها. الريادة هنا بمعنى أنها أول غزاوية تقتحم فن التمثيل الكوميدي. الشابة ذات التسعة عشر عاماً تدرك أن تحقيق حلمها ذاك ليس سهلاً في مجتمعها، حيث النظرة التقليدية لمشاركة المرأة بأي مجال فني، لا تزال تتسم بالسلبية. لكن إصرار ريهام الكحلوت يمدها بأسباب الاستمرار في المحاولة، وإذا بحثت على موقع «يوتيوب» عما قدمت من أدوار، شاهدت مقاطع لها تنبئ بوجود موهبة تستحق الاهتمام. في السياق ذاته، لفتني وجود فرقة من مجموعة شبان تقدم مسلسلاً يحمل عنوان «بس يا زلمة»، ويتضمن حلقات فكاهية تتناول الواقع المجتمعي.
مهمٌ أن الحصار المضروب حول غزة لم يصادر حق شبانها في الحلم. ومطلوب ألا تحول هموم الأوطان، حيث هي، ليس غزة وحدها، دون استنطاق الضحك، حتى لو قيل إنه «ضحك كالبكاء». مسيرة الشعوب ينبغي أن تمضي، مرٌ هو الدهر، أو حلو. أحلام الشابة ريهام الكحلوت، وأترابها من هواة فن التمثيل بين شابات وشبان غزة، بعض مما يحلم به الشباب بمختلف قطاعات القطاع المتمدد شريطاً على ساحل البحر الأبيض المتوسط، الذي شهد عبر مراحل عدة أشكالاً مختلفة من إدارات الحكم، من العصر الروماني إلى الزمن العثماني، مروراً بالانتداب البريطاني، وصولاً للعهد المصري، فالاحتلال الإسرائيلي. ولمّا لاحت تباشير أول زمن استقلال فلسطيني، جاء أولو الأمر من مهاجر «ثورة بساط الريح»، ليبدأوا بناء «دولة على كل شبر يتحرر»، كما ردد الشعار دائماً، لكن أغلب ساستهم تولّوا عن تأدية ذلك الواجب بصدق وصفاء نيّة، فولوا اهتمامهم وجهات مصالحهم، سواء الفصائلية أو الذاتية، فماذا كانت المحصلة؟
حسناً، الجواب معلوم. لكن أسوأ ما في تفاصيل ما حصل هو أن ساسة الفصائل الفلسطينية، تسلموا إدارة أمور شعبهم في إطار سلطة موحدة فوق أرض واحدة هي الضفة الغربية وقطاع غزة - رغم جيوب الاحتلال وحواجزه - فإذا بها تنتهي سلطتين على أرضين. لست أدري، ومئات آلاف غيري، كيف يبرر أي من ساسة الفصائل الفلسطينية ما فعل انشطارهم على أنفسهم بحاضر شعبهم ومستقبله. في يونيو (حزيران) المقبل، يبلغ عمر فصل حكم غزة عن رام الله عشر سنوات. كأنما ليس لعقد من الزمن أي قيمة. بل هناك من يزعم أن مائة عام ليست شيئاً في حساب أعمار الشعوب. معظم الزاعقين بهكذا قول تجدهم مرتاحين في كل شيء يخصهم. يقتضي الإنصاف القول إن حضرات ساسة فصائل الفلسطينيين لم يقصّروا في السفر والتجوال لعقد اللقاءات. طلبوا التحاور لأجل المصالحة حتى في موسكو، كأن اتفاق مكة المكرمة لم يكن، مثلاً، أجدر بالاحترام.
ها هي «حماس» تعلن، مجدداً، أنها تدرس القبول بدولة فلسطينية ضمن حدود الرابع من يونيو 1967، إنما بلا اعتراف بإسرائيل. وها هي «فتح» تقول إنها تقبل بفكرة حل الدولة الواحدة للإسرائيليين والفلسطينيين (محمود العالول - «الشرق الأوسط» 1 / 3 / 2017). ربما الأجدر بأهمّ وأكبر تنظيمين أن يتفقا أولاً كيف يمكنهما أن يتوحدا - تخطيطاً واستراتيجياً، لا تنظيمياً - وأن يفرضا على بقية التنظيمات الالتزام بما يتفاهمان عليه لمصلحة الفلسطينيين. هل أن هكذا قولاً صار بحكم أضغاث الأحلام أيضاً؟ ربما، خصوصاً حين يصر ساسة أي تنظيم أن يظل عنوانهم بعيداً عن البيت الفلسطيني، إذ ذاك لن يجدي نفعاً أي كلام.
بيد أن كل ذلك الهمّ يجب ألا يحول بين ريهام الكحلوت ومجايليها من شبان غزة وشاباتها، وبين الحلم بغدٍ أجمل، بل لعله يدفعهم لمزيد من العطاء مهما حاول ساسة الفصائل شدهم إلى الوراء. جيلي مرّ بأحلام مشابهة. في ستينات القرن الماضي، قدمت فرقة «نادي العودة» مسرحية «البخيل»، رائعة موليير، على مسرح سينما السامر. كنتُ ضمن أعضائها الهواة، نتعلم من ممثلين بارعين، مثل محمد صوان، وخليل طافش، وعبد الوهاب الهندي، وغيرهم. كانت غزة تلك تتسع لكل طيف سياسي، وكان اختلاف الرأي والمواقف يجري بأسلوب حضاري، وحقاً لم يكن يفسد أي ودٍ، ناهيك بأن يسفك الدماء وأن يباعد بين أبناء فلسطين وبين حلم الدولة، القائم منذ ذاك الآن، وسيبقى ما بقي الزمن.
عن الشرق الأوسط