لا يتوقف طرفا الانقسام الفلسطيني عن تقديم المزيد من الخطوات التي تؤشر نحو تعميق هذا الانقسام، ومأسسته، وتحويله إلى ثابت من ثوابت الوضع الفلسطيني إلى أمد غير معروف. يبدو أن هذا الانقسام قد تمكن حتى أنتج آليات، تتراكم تداعياتها، لتنتج المزيد من الخطوات الانقسامية التي تذهب نحو تمكين إسرائيل من تنفيذ مخططاتها إزالة دولة الفلسطينيين في غزة، حتى لو لم يعترفوا بذلك، وبدون كثير من التصريحات والإعلانات الفجة من قبل إسرائيل. في غزة يتم الإعلان عن تشكيل لجنة ادارية لادارة الوزارات التي يغيب عنها دور حكومة الوفاق الوطني. كتلة حماس في التشريعي تقر مشروع قانون بالقراءة الثانية لتسويغ هذا الإجراء بحسب بيان للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان الذي حذر من أن مثل هذا الإجراء من شأنه أن يعمق الانقسام، ويدفع الأمور نحو الانفصال.
البعض يربط بين توقيت الإعلان عن هذا التشكيل الإداري، بالتوقيت الذي حددته الحكومة الفلسطينية لإجراء الانتخابات البلدية، في محاولة لاختراع تبريرات لتبدو المسألة وكأنها رد فعل طبيعي على فعل أقدمت عليه الحكومة وترفضه حركة حماس. في الواقع فإن دوافع تشكيل هذه اللجنة سابقة على قرار إجراء الانتخابات، فلقد تم تداول هذه الفكرة في اطار الحديث عن توافق وطني فصائلي في ظل عجز حكومة الوفاق عن القيام بواجباتها ودورها في قطاع غزة.
العودة إلى هذا الموضوع مجدداً، لا علاقة له بردود الأفعال بقدر ما أنه ينطوي على سلوك فكري سياسي منهجي، يقوم على الاستمرار في مأسسة الانقسام، ومراكمة المزيد من العقبات أمام إمكانية تحقيق المصالحة الوطنية، واستعادة الوحدة.
ففي ضوء رفض الفصائل لمثل هذه الخطوة، يصبح هذا الأمر تكريساً لهيمنة حماس واستفرادها وسيطرتها على قطاع غزة، واستبعاداً لمنهج التوافق الوطني، وبناء الشراكات. في كل الأحوال ما كان يمكن تسويغ أو تشريع مثل هذا الإجراء الذي يفتقر إلى الدعم والمبرر القانوني. وفضلاً عن أنه إجراء غير قانوني، حتى لو شرعته كتلة حماس البرلمانية، وعن أنه يعمق الانقسام ويؤشر إلى إمكانية تحوله إلى انفصال، فإن هذا الإجراء من شأنه أن يولد ردود فعل من قبل الحكومة، بما ينعكس سلباً على الأوضاع المعيشية والخدمية لسكان قطاع غزة.
وفي الحقيقة فإنه لا يمكن بحال أن تكون لجنة إدارية هي بمثابة حكومة لأن تكون بديلاً عن الحكومة العاشرة التي انتهت بالتوافق على تشكيل حكومة وفاق وطني. الحكومة العاشرة كانت لها مسوغاتها حتى لو اختلف الناس حول مدى شرعيتها وقانونيتها بعد انقلاب حركة حماس على السلطة، ولكن أي شرعية، وأي مسوغ قانوني يمكن أن يستند اليه التشكيل الإداري الذي يجري الحديث عنه؟
وفي المقابل تقرر الحكومة الفلسطينية إجراء الانتخابات البلدية في الثالث عشر من أيار القادم، هكذا وحدها، بدون أي حوار، أو توافق وطني، وكأنها حكومة كاملة الصلاحيات، ومعترف بها من الجميع، وقادرة على تنفيذ قراراتها. يتجاهل قرار الحكومة بشأن الانتخابات البلدية موقف حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة، وبيدها قرار السماح للحكومة بتنفيذ هذا القرار في قطاع غزة، أو عدم تنفيذه.
تعلم القيادة الفلسطينية وتعلم الحكومة، أن حركة حماس لن توافق على المشاركة في هذه الانتخابات، ولن تسمح بإجرائها في قطاع غزة بعد أن أصدر الرئيس محمود عباس قرارات ومراسيم لتعديل قانون الانتخابات بما يسحب صلاحيات القضاء في غزة لصالح محكمة خاصة.
حين تم الإعلان عن إجراء الانتخابات في العام الماضي، استغرب البعض أن يتم منح صلاحيات الإشراف الأمني والقانوني عليها من قبل الأمن الداخلي ومن قبل جهاز القضاء في غزة، فلقد بدا الأمر على أنه اعتراف بشرعية وصلاحيات هذه الأجهزة. كانت تلك مبادرة إيجابية فهمها البعض على أنها خطوة ومؤشر نحو تعزيز التوجه نحو المصالحة، لكن القرارات والمراسيم اللاحقة أعادت الأمور إلى ما كانت عليه، إذ لا أحد يعترف بالآخر. وفي الأخير فإن إجراء الانتخابات البلدية في الضفة الغربية بدون قطاع غزة، يعني أن ثمة من يريد أن يبقى القطاع خارج الدائرة، وبأن تتواصل عملية التهميش التي يعاني منها سكان القطاع.
ما معنى أن تجري الانتخابات البلدية في الضفة بدون غزة، أو ليس هذا أيضاً يصب في اتجاه خلق المزيد من الخطوات والإجراءات الانفصالية؟ وفوق هذا يأتي قرار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بالامتناع عن المشاركة في الانتخابات البلدية، لكي يرسم علامة استفهام حول ديمقراطيتها وشرعيتها وحتى حول جدوى إجرائها في ظل هذه الأجواء الوطنية المشحونة.
من الواضح أن قرار الجبهة الشعبية الذي جاء احتجاجاً على القمع الذي تعرضت له، الاحتجاجات الشعبية السلمية على محاكمة الشهيد باسل الأعرج ورفاقه، من الواضح أن هذا القرار يحسب على رد الفعل، ذلك أن الجبهة كانت قد قررت المشاركة في الانتخابات، لكن المحصلة هي أن هذا القرار يضعف ويمس العملية الديمقراطية، وينال من شرعيتها.
وفي الأساس فإن المشكلة الأساسية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني، لا تتوقف على إجراء أو عدم إجراء الانتخابات البلدية، ولا هذه حتى لو شاركت فيها كل الفصائل، ستكون المفتاح الذي ينقل الوضع الفلسطيني إلى رحاب المصالحة.
وإذا كان الانقسام والخلاف الفلسطيني يعبر عن نفسه بكل هذا الوضوح في مربع عملية انتخابية لا تجدد شرعية المؤسسات الوطنية الكبرى، فأي معنى لوجود هيئات محلية منتخبة من قبل عدد قليل من الناس، ولا تحظى بقبول الجمهور الذي سيستفيد من خدماتها؟
خطوتان في الاتجاه الخاطئ، تصبان في اتجاه استبعاد الأمل في إمكانية تحقيق الوحدة الوطنية وتستكملان، أو تشكلان حلقات في سلسلة الممارسات الانقسامية، التي تفضي إلى إراحة الاحتلال، وتمكينه من السيطرة على القرار، في الاتجاه الذي يخدم مخططاته التوسعية.
ثمة ما يدعو لشديد القلق، من أن الفلسطينيين الذين يبحثون عن دولتهم وسط كومة كبيرة من القش في يوم ريح عاتية، لا يقومون بواجباتهم على النحو الذي يقدم للعالم رسالة واضحة من أنهم مجمعون على السعي من أجل إقامة دولتهم، وبأن على العالم أن يستجيب لمثل هذا الحق الإجماعي.