رويداً رويداً ينقشع الضباب الذي يلف "مواقف" الرئيس الأميركي الجديد، وشيئاً فشيئاً تتوضح ملامح "الصفقة" التي ألمح إليها وأحياناً صرح بها حول الحل السياسي في الشرق الأوسط.
لا أرى أن "الصفقة" لدى الرئيس دونالد ترامب مكتملة الصورة بعد، ولا أعتقد أن صيغتها النهائية جاهزة أما ركائزها الأساسية فنعم.
يمكن الاستدلال على هذه الركائز من سياقات متعددة ومن مبادرات معينة.
انتهت وإلى غير رجعة كل التقديرات التي كانت ترى ـ وبعضها كانت تراهن ـ على استبعاد القيادة الفلسطينية أو تجاهلها أو حتى تجاهلها مؤقتاً لحين إنضاج تفاهمات أميركية إسرائيلية "لإلزام" الطرف الفلسطيني بها أو الضغط عليه لقبولها.
لقد تبين الآن وبعد الاتصال مع الرئيس أبو مازن ودعوته لزيارة البيض الأبيض أن كل هذه التقديرات واهمة، وان الرئيس الأميركي ليس بوارد الاستبعاد ولا التجاهل، بل على العكس من ذلك تماماً فهو مستعد للعمل مع الرئيس عباس ومهتم بل ومتحمس لمعرفة آفاق وحدود هذا العمل.
اجتماع الرئيس مع المبعوث الأميركي بعد اجتماع ماراثوني مع نتنياهو في المرحلة الاستكشافية من هذا العمل عقب اللقاءات في واشنطن ورام الله مع أعلى المستويات الأمنية في الولايات المتحدة التي سبقت المكالمة الهاتفية والدعوة للزيارة تنفي وبصورة قاطعة أن يكون لدى الإدارة الأميركية الجديدة أي نوايا للاستبعاد أو التجاهل وتؤكد اهتمام هذه الإدارة بالتعرف إلى مطالب الطرفين وكيفية أو كيفيات الجسر بين هذه المطالب التي تتعارض بصورة كبيرة في الكثير من الأوجه والمجالات. وهذه ركيزة أساسية أولى.
استبعاد الحلول البديلة عن حل الدولتين هو ركيزة ثانية بعد تراجع الحديث بصورة نهائية عن حل "الدولة الواحدة" وعودة البيت الأبيض عن الحديث الصريح عن حل الدولتين والتأكيد على "قناعة" الإدارة به كبديل عن حالة الجمود القائمة وأخطار استمرار الأمور على ما هي عليه اليوم.
أما الركيزة الثالثة فهي عودة الولايات المتحدة للإشراف المباشر على المفاوضات المباشرة بالتوازي ـ على ما يبدو ـ مع الاشتراك الإقليمي والإشراك الإقليمي بحيث يتم الربط والترابط ما بين المسارين.
أقصد المسار التفاوضي المباشر والمسار الإقليمي للمشاركة والإشراف تحت الإشراف المباشر للإدارة الأميركية، وأحياناً تحت المتابعة المباشرة من الرئيس الأميركي نفسه.
في هذا الإطار يمكن فهم ما أعلن عن مبادرة لعقد قمة أميركية إسرائيلية فلسطينية في عمان في الشهر الخامس من هذا العام. بل ان هناك أحاديث تبدو جدية عن جولات تمهيدية مهمة تسبق هذه القمة الكبيرة.
والركيزة الرابعة هي أن الإدارة الجديدة لا هي موافقة على استمرار الاستيطان ولا هي راغبة بالتستر على محاولات نتنياهو لشرعنته، وهي ترفض الضم، وترى أن الحل أو الصفقة الكبيرة هي التي ستضع له الحد والحدود، وواضح من خلال ذلك أن ترسيم الحدود بعد "التبادل" هو هذا الحل.
أما الركيزة الخامسة فهي بصدد ـ أي الإدارة الجديدة ـ البحث عن الصيغ "المناسبة" لقضية القدس والأغوار واللاجئين.
أغلب الظن هنا أن الصيغة التي كان قد اقترحها الرئيس الأسبق بيل كلينتون هي قاعدة هذا البحث، وأغلب الظن أن الصيغة الأميركية حيال هذه القضايا الجوهرية الثلاث لن تذهب بعيداً عن تلك الاقتراحات.
على الرغم من معرفتنا اليقينية أن كل الإدارات الأميركية منحازة بالكامل لإسرائيل وهي تتبنى المفاهيم الإسرائيلية العامة والتي تعبّر عن المشروع الإسرائيلي للحل، إلاّ أن هذا التبني لا يعني ولم يعنِ في السابق ولن يعني اليوم ولا غداً الاتفاق على السياسات الإسرائيلية كلها، كما أن هذا الاتفاق متعذّر في معظم المجالات التي يدور حولها الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على الأرض اليوم.
اليوم وفي الواقع القائم إسرائيل ترفض حل الدولتين، وهي تجاهر بسعادتها "الغامرة" بأن هذا الحل لم يعد قائماً ولا هو متاح في المستقبل.
وإسرائيل اليوم تودّ وترغب وهي تعمل بكل طاقاتها للاستيطان في كل مكان، وهي تعتبر أن الاستيطان مشروع في كل بقعة من الأرض الفلسطينية لأنها (أصلاً أرض الشعب اليهودي)، والقدس بالنسبة لإسرائيل هي "العاصمة الموحّدة الأبدية" للدولة الصهيونية.
إسرائيل ليست بوارد "التنازل" عن الأغوار ولن "تسلّم" الأمن من النهر للبحر لأحد وليس لديها أي استعداد للبحث في قضية اللاجئين.
إزاء هذه الوقائع فإن الصفقة الترامبية مهما انخفض سقفها ومهما بلغت حدودها سوف تتعارض وتتناقض مع السياسة الإسرائيلية التي تشكل قاعدة الائتلاف الحاكم فيها.
وسنكون في الواقع إزاء سيناريوهات مختلفة من حيث المفاعيل والنتائج لهذه التعارضات.
من المؤكد استحالة بقاء هذا الائتلاف إذا ما جرى أي تعاطيات "إيجابية" إسرائيلية مع "الصفقة الترامبية".
نفتالي بينيت ينتظر اللحظة وهذه هي فرصة للانقضاض نحو زعامة اليمين المتطرف.
ليبرمان سيبدي "مرونة" ليس للاستجابة بحد ذاتها وإنما لتقوية مواقعه مع الأميركان ليكون البديل "المفضل" في اللحظة المناسبة، خصوصاً وأن قضايا الفساد أصبحت على جدول الأعمال.
"لبيد" والمعسكر الصهيوني ليسوا بوارد دعم التناقض مع ترامب ولهذا فإن الليكود سيكون في خطر وبعد يعالون هناك في الأفق يعالونات كثيرة على الطريق.
إذن "الصفقة" تحتاج إلى سيناريو جديد يتمثل بواقع سياسي جديد في إسرائيل. لهذا كله دعونا ننتظر، وستأتي اللحظة المناسبة للقرارات. علينا أن نبدي الإيجابية الكافية والمرونة المطلوبة في الحوار مع الإدارة الأميركية لا من منطق التعلق "بقشة" ـ فهذه ليست من شيم ولا من قيم فلسطين، ولا من منطق المراهنة ـ فنحن نعرف جيداً التوجهات الفكرية والثقافية للرئيس ترامب ـ ولكن من منطق قدرتنا على المراهنة على صحة القراءة للواقع القائم، ومن منطق الخبرة السياسية التي يختزنها الرئيس تحديداً. ليس لنا مصلحة بالأحكام المسبقة ولسنا بصدد لحظة القرارات السياسية.
نحن فقط في مرحلة استكشافية مقابلة للمرحلة "الترامبية" في هذا الاستكشاف.