أخيراً شعر الرئيس الفلسطينى محمود عباس أنه فى دائرة الاهتمام الأمريكى، بعد الاتصال الهاتفى الذى أجراه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب به، ووصفه المقربون من الرئيس عباس بالدافئ، هذه المكالمة التى جاءت متأخرة لأكثر من شهرين منذ تولى الرئيس الأمريكى مقاليد الحكم وتجاهل متعمد من الإدارة الأمريكية للسلطة الفلسطينية، جددت الشرعية للسلطة وأعادت الثقة والقوة للرئيس الفلسطينى بعد أن كاد اليأس يأخذ منه كل مأخذ، إذ يعانى فتوراً واضحاً فى علاقته ببعض الدول العربية، وزعامته تتعرض لمنافسة قوية من خصمه محمد دحلان المدعوم من هذه الدول (مصر ودولة الإمارات)، فضلاً عن شعوره بالضعف السياسى وقلة الحيلة على الأقل أمام مؤيديه ومن يؤمنون بسياساته، الذين اعتبروا اتصال ترامب بداية تحرك من الإدارة الأمريكية الجديدة نحو ما سماه «الصفقة الكبرى»، بمعنى التسوية السياسية للصراع الفلسطينى - الإسرائيلى، وتمادى هؤلاء فى تفاؤلهم عندما اعتبروا هذا الدفء اللافت فى محادثة ترامب للرئيس عباس ودعوته لزيارة البيت الأبيض فى أقرب وقت، بمثابة تأكيد على أن عباس رجل السلام وأن ترامب شريكه فى العملية السياسية التى ستقود إلى سلام حقيقى بين الفلسطينيين وإسرائيل، وأنه مصمم على التوصل إلى تسوية ولهذا قام بتعيين فريق لتحقيق هذا الغرض، (مرحلة تكوين الرؤية ومن ثم وضع الخطة وتحديد الإطار) للعملية السياسية المقبلة.
هلل المتفاؤلون للاتصال واكتسب الكثير من الألق بعد سلسلة الخيبات التى واجهتها القيادة الفلسطينية من الإدارة الأمريكية، واعتبروا أن العملية السياسية لا يمكن أن تتخطى الرئيس عباس «كعنوان للشعب الفلسطينى» وشريك فى عملية السلام ولا شىء يمكن عمله من دون هذا الشريك الفلسطينى! ربما نلتمس لهم العذر فهى المكالمة الأولى بعد تجاهل دام كثيراً فى ظل تصريحات حادة وقاسية من الرئيس ترامب منذ كان مرشحاً رئاسياً وحتى بعد فوزه فى الانتخابات والتصريحات التى أطلقها دفاعاً عن إسرائيل فيما تفعله وتراه مصلحة لها ودعمه العلنى للاستيطان الذى لا يراه يتعارض مع السلام، فضلاً عن انتقاده للأمم المتحدة التى يرى فى قراراتها ظلماً لإسرائيل وتصميمه على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وعدم تمسكه بحل الدولتين كخيار وحيد للتوصل إلى تسوية عادلة والعديد من المواقف الداعمة والمؤيدة لإسرائيل فى الوقت الذى لم يكن موقفه واضحاً تجاه الفلسطينيين، ما أثار قلقاً فلسطينياً بالغاً، خاصة بعد تجاهل ترامب أى تواصل مع الرئيس عباس وفشل كل المحاولات الساعية لذلك.
فما سر هذا التحول المفاجئ نحو الفلسطينيين؟ وما هى الصفقة التاريخية الكبرى التى يتحدث عنها ترامب فى قضية الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتأكيده أن السلام سيتحقق برضا الطرفين دون وسيط؟! جميع الرؤساء الأمريكيين السابقين كانوا يتبنون قضية السلام بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى، ربما تختلف شكلاً لكنها تتشابه فى المضمون، يلعبون دور الوسيط لكن تلك الوساطة لم تكن يوماً محايدة بل كانت منحازة لإسرائيل، لذا فشلت كل الوساطات الأمريكية المتعاقبة فى تحقيق السلام العادل والشامل بين الطرفين فما الجديد الذى سيقدمه ترامب؟
هل اقتنع ترامب بأنه لا يستطيع تجاهل الموقف العربى المطالب والمؤيد لحل الدولتين ورفض نقل السفارة الأمريكية ووقف الاستيطان؟ أم كان يمارس سياسة العصا على الرئيس عباس فى إطار الضغط والترهيب؟ هل جاء اتصاله بعباس بعد أن اتضحت رؤية ومواقف السلطة فى محاربة الإرهاب وإيمانها بالسلام والتعايش مع إسرائيل؟ أم أن الاتصال ودعوة عباس للبيت الأبيض كان ثمرة للحراك الدبلوماسى من بعض الشخصيات الأمريكية، فضلاً عن الجهود الذاتية من قبل بعض الجاليات الفلسطينية المؤثرة فى صناعة القرار الفلسطينى؟ لقد منح الاتصال الرئيس عباس طوق النجاة ليخرجه من عزلته السياسية، والحديث عن صفقة تاريخية فتح باب التساؤل واسعاً حول ما ينتظر الرئيس عباس فى واشنطن والثمن الذى سيدفعه مقابل الجلوس على طاولة المفاوضات مع إسرائيل وهل سيتنازل عن شروطه؟ الرئيس عباس ينظر لاتصال ترامب على أنه أهم خطوة بالنسبة إليه وساعد فعلياً فى إنقاذه من الوضع السياسى المتردى الذى يعانى منه محلياً وعربياً، وترامب يريد فتح مسار سياسى جديد سيعرض فيه صفقة لإحياء المفاوضات تحت رعايته وبإشراف دول عربية على رأسها الأردن، لكن الخشية من أن يوظف الرئيس الأمريكى تحريك القضية الفلسطينية كنوع من الإرضاء والإلهاء للعرب والمسلمين وتوظيفهم فى مواجهاته المقبلة، لأنه بالتأكيد سيحمل لعباس مطالب نتنياهو باستئناف المفاوضات دون شروط مسبقة والاعتراف بيهودية الدولة، ولن يقدم ما قدمته الإدارات الأمريكية المتعاقبة على صعيد المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، والخوف من أن إصرار الرئيس عباس على حل الدولتين ووقف الاستيطان لن يكون سهلاً، لأنه لا يتماشى ومفهوم نتنياهو للتسوية أو مفهوم الرئيس الأمريكى القائم على المفاوضات المباشرة دون شروط مسبقة، غير أن ذلك لا يمنع بأى حال أن يطرح الرئيس عباس الرؤية الفلسطينية للسلام بوضوح وثبات دون التورط بالتوقيع على اتفاق أو الالتزام بأى مشروع يفرضه ترامب لحل الصراع تحت وطأة عدم وجود خيارات أفضل لديه.
عن الوطن المصرية