من الذي يُعَطِّل صدور قانون العقوبات بعد أن أثبت الواقع الحاجة القصوى لوجوده، قصور القانون الأردني لعام 1960، الساري المفعول في الضفة الغربية، عن مقاربة الواقع المتشكل، بين القانون والواقع أكثر من نصف قرن، تغير الواقع وتغير البشر. عجزه كأداة: للتثقيف والتغيير، الردع المسبق، متراس حماية للفئات المستضعفة، الطريق إلى العدالة.
في الصورة، تشير المسوح إلى تزايد معدلات العنف في المجتمع، مظهرة أشكالاً جديدة منه. حلقات العنف، ضمن الخصوصية الفلسطينية، تعيد إنتاج طبقاته، تَمَس النساء أكثر من باقي القطاعات نظراً للوضعية الخاصة، العنف القومي والاجتماعي والجنسي، المرأة في بلادنا كائن قاصر مدى الحياة، ناقصة الأهلية والعقل والدين.
في ضوء الحقائق العلمية ومؤشرات العنف، أمام تحليلات واستنتاجات الباحثين-ات الاجتماعيين-ات، يقف صاحب القرار متأملاً في الحالة، عاجزاً مقيّداً متجاهلاً مؤجلاً المهام، بين حين وآخر يقطِّر بعض الإصلاحات القانونية ضمن صلاحية القرارات بقانون، معترفاً بشكل غير مباشر عن المأزق القانوني، انفصام القانون عن المجتمع بفعل التطورات والتغيرات الموضوعية، لكنه عوضاً عن السير في خط مستقيم نحو إصدار القانون ولوائحة، يستمر في الحفاظ على مسودته عالقةً في الأدراج، فما الذي يعيق إصداره!؟
مجموعة المعيقات والتحديات تنتصب في الطريق إلى الأهداف، الاحتلال والانقسام من جهة، ومجموعة الأسباب الأيديولوجية والسياسية من جهة ثانية؛ دائماً في المرصاد.
بعيداً عن نظرية تعليق وتبرير القصور والتقصير في صدور القانون على الاحتلال، فالواقع يشير إلى أنه ينبري معيقاً كل شيء، إنه مُتَدخِل ثابت في الحياة الفلسطينية. فليس من مصلحة الاحتلال بشكل عام تنظيم المجتمع وقوننته، بل مصلحته في تعميق تخلُّف المجتمع الفلسطيني وإعاقة التحاقه بالركب العلمي والحضاري، إبقاء حالة الفوضى القانونية ممثلة بتعدد القوانين السارية، القوانين الفلسطينية الأردنية والمصرية والأحكام العرفية الاحتلالية، ثبات الوقائع على الأرض، كونتونات جغرافية غير متصلة تنطبق عليها قوانين مختلفة، نفي السيادة وتعذر الوصول إليها.
ومن المنظور النسوي؛ القيود الاجتماعية على المرأة مصلحة احتلالية خالصة، بمعنى بقاء المجتمع مكبلاً، بمنظومة القيم العشائرية، الموروثات الماضوية، سلّة الأعراف والتقاليد والعادات، يمنع الحصول على امرأة حرة ومستقلة وفاعلة في المشهد التنموي، وتفكيك حلقات العنف الاجتماعي من حولها تؤدي الى زيادة مشاركتها في مواقع المواجهة في مسارات التحرر الوطني.
رغم أن الانقسام السياسي الداخلي قد أدى إلى تعطل أعمال المجلس التشريعي وغيبه عن مهامه وصلاحياته التشريعية، إلا أن الانقسام لم يكن عائقاً في صدور القوانين. فقد صدر مئة وثمانية وسبعون قانوناً بقرار من الرئيس وفقاً لصلاحياته في الضفة الغربية، وأصدرت كتلة حماس البرلمانية في قطاع غزة سبعة وخمسين تشريعاً، منها إصدار قانون العقوبات استناداً إلى الشريعة: السارق تُقطَع يده، وجلد أو رجم الزاني والزانية!
الأسباب العقائدية، تبدو لي العامل الأكثر تأثيراً في إعاقة صدور قانون العقوبات. فعبْر الزمان تم إسباغ هالات من القداسة عليه. بما أدى إلى وقوع الرأي العام تحت تأثير ثقافة ونصوص مصطنعة لا علاقة لها بالدين، بسبب الجهل والتحريض والترهيب الفكري، قصور العارفين وإحجامهم عن تقديم الحقائق: قانون العقوبات النافذ من القوانين الوضعية، وأن البنود المتعلقة بالعذر المحل لجرائم قتل النساء لا علاقة لها بالدين، تحديد التخوم بين الديني والدنيوي، نقطة في نهاية السطر.
أذكِّر بالقراءة الثانية لقانون العقوبات في عام 2003، لدى تسيير حركة حماس في غزة عام 2003 مظاهرات جماهيرية تستنكر مسودة القانون، موجهة الاتهام للقانون ولواضعيه بتشجيع «الزنا»؛ وادِّعائهم أن المجلس التشريعي قد تطاول على نصٍ مُقَدَّس، بإقدامه على إلغاء استفادة قاتل النساء من العذر المخفف للعقوبة.
خلال تلك المسيرة كان الصحافيون يتجولون بين المتظاهرين للبحث عن مشارك واحد في قراءة المسودة، فلم يجدوا أحداً! كان الهدف السياسي واضحاً للمظاهرة. تكفير الطرف المسيطر على المجلس التشريعي آنذاك..في النتيجة، تم طيّ مسودة القانون قبل استكمال القراءة الثالثة، تردد وضعف الإرادة السياسية.
منذ ذلك الحين، لا نسمع سوى عن العقبات التي تحول دون صدور القانون، غير مكترثين أنه لا يمكن التهرب من الاستحقاق إلى الأبد. وعوضاً عن التهرب من إصدار قانون العقوبات الفلسطيني، ينبغي التصدي لقائمة المهام المطلوبة: توفير المناخ الملائم للنقاش، توعية الرأي العام وتجهيزه لتقبل القانون، دحض علاقة البنود المتعلقة بالعذر المخفف بالدين..لأن النص المقدس اعتمد مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في العقوبة ولم يميز بينهما..
* من ورقة عمل مقدمة إلى مؤتمر: «مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي»