لم « يدوش « العيار الذي أطلقته السيدة ريما خلف، المدير العام المستقيل لأسكوا، اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة، إسرائيل والولايات المتحدة، لدرجة أن تمارسا كل الضغوط الممكنة على الأمين العام للمنظمة الدولية، حتى يقوم بسحب التقرير الأممي الذي كشف عن الطبيعة العنصرية « لدولة « إسرائيل، فقط، لكنه أثار صخباً، وحرك المياه الراكدة في الأوساط السياسية الفلسطينية، لتدرك بعد طول سبات، أن فتح هذا الطريق لا يثير « جنون « الحكومة اليمينية المتطرفة الإسرائيلية وحسب، بل يثير جنون إسرائيل كلها.
وإسرائيل تدرك _ ربما _ أكثر منا، بأن مسار أوسلو، لم يكن إلا انحناء للعاصفة التي هبت رياحها عليها، بعد انطلاق الانتفاضة الشعبية عام 1987 وبعد تواصل تداعياتها بعد انهيار جدار برلين، وحرب الخليج الثانية، حيث أجبر الرئيس الجمهوري الأميركي جورج بوش الأب، حكومة الليكود اليمينية برئاسة اسحق شامير، على الذهاب إلى المؤتمر الدولي في مدريد، والموافقة على أن يتضمن الوفد الأردني، أعضاء فلسطينيين، كان من بينهم كبير المفاوضين الفلسطينيين الحالي صائب عريقات، وذلك بعد أن مارس على إسرائيل الضغط المعروفة بالتلويح بوقف ما كان يسمى في حينه بضمانات القروض المالية الممنوحة من قبل واشنطن لإسرائيل .
وتدرك إسرائيل أيضا _ وربما أكثر منا نحن الفلسطينيين _ بان الحل المؤقت القائم حتى الآن، والمستمر منذ عام 1994، لن يكون « حلا « نهائيا، كما هو حال الاحتلال نفسه، الذي لم يتحول إلى واقع يتعايش معه الشعب الفلسطيني رغم مرور 50 سنة عليه، كذلك وهذا هو الأهم أن إسرائيل تعرف جيدا بأن الحل النهائي نفسه، أو هذا ما يطلق عليه الطرفان المتفاوضان، حتى لو جاء وفق تطلع المفاوض الفلسطيني، أي على أساس « حل الدولتين « وبما يفضي إليه من إقامة لدولة فلسطين المستقلة على حدود العام 1967 إلى جانب دولة إسرائيل، لن يكون حلا نهائيا، بل لن يكون أكثر من « حل مؤقت « قد يستمر عدة سنوات أو حتى عدة عقود من السنوات، لكنه لن يستمر إلى الأبد!
فمثل هذا الحل، ربما يشبه اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، أو اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، لكنه لن يكون على شاكلة اتفاقية إنهاء الحرب العالمية الثانية، أو اتفاقية إنهاء حرب فيتنام، أو اتفاقية إنهاء حرب الجزائر، على سبيل الأمثلة، لا الحصر، ذلك أن الحل النهائي، مطلوب منه ليس فقط أن يضع حدا لاحتلال إسرائيل لأراضي دولة فلسطين المحتلة منذ عام 1967 بما يتضمنه من قبول على مضض من قبل الجانب الفلسطيني، بتبادل للأراضي ناجم عن إقدام إسرائيل على تجاوز القانون الدولي بتغيير معالم الأرض المحتلة وذلك بزرع العديد من المستوطنات الاحتلالية فيها، وليس على أساس قرار التقسيم الأممي 181 الصادر عام 1947، ولكن مطلوب منه أن يضع حدا لعنصرية دولة إسرائيل، التي تقوم بالتمييز العنصري، بين مواطني دولتها العرب واليهود، من جهة، ثم من جهة أخرى بتقسيم الفلسطينيين إلى فئات: والمقصود هنا كما أشارت تقرير الأسكوا فلسطينيو « دولة فلسطين « المعترف بها كمراقب في الأمم المتحدة منذ عام 2012، أي سكان القدس الشرقية، الضفة الغربية، غزة، وسكان الشتات الفلسطيني .
إسرائيل المحكومة باليمين المتطرف الإسرائيلي، واليمين القومي، ابعد من ذلك تذهب إلى عنصرية صريحة حين تطالب بالاعتراف بها كدولة « إثنية « يهودية، أي دولة طائفية، عنصرية تماماً، لذا فان إسرائيل حين تعجز عن التوصل لحل معضلة احتلالها للأرض والشعب الفلسطينيين، فإنها هي من ستدفع الثمن، وهي التي ستطالب بإيجاد الحل وليس أي احد غيرها.
وفي الحقيقة، فان أحداً يمتلك عقلاً راجحاً، أو رصيداً عالياً من الكفاح الوطني، كما هو حال الشعب الفلسطيني، يدرك جيدا، بأن الحلول لن تسقط من السماء من تلقاء نفسها، وانه دون كفاح وطني مثابر وحثيث، ستجد إسرائيل دائما « المسكنات « والمهدئات، الناجمة عن صداع رأسها الحاكم، جراء التهرب الدائم والمستمر من إيجاد حل، ولو في المدى المنظور، وقد فعلت هذا في أوسلو، وقبله « احتوت « رد الفعل على احتلال عام 67، بصد العمليات الفدائية التي كانت تنفذ ضدها أولا عبر حدودها الشرقية مع الأردن ثم تالياً عبر حدودها الشمالية مع لبنان، لكن وفي الحالتين، وبعد مرور 25 سنة على كل حقبة، كان في انتظارها فصل جديد من المقاومة، كان الفصل الأول هو الكفاح المسلح، ثم الفصل الثاني الانتفاضة الشعبية .
الآن في انتظار إسرائيل فصل من الكفاح، ضد عنصريتها، حيث لابد أن يدفع تقرير الأسكوا الفلسطينيين كلهم بملايينهم التي تصل إلى نحو 12 مليون إنسان، إلى مراجعة برنامجهم الوطني وأدواتهم الكفاحية، بحيث أن لا يقتصر الكفاح الوطني على قطاع شعبي بعينه، وان لا يكون الحل لقطاع وحيد من الشعب الفلسطيني، لأن الفلسطينيين يجب أن لا يكونوا معنيين بإيجاد الحل لإسرائيل، بل لهم، فان ينخرط 12 مليون بالكفاح وفق برنامج متعدد البنود، يعني بان الحل يجب أن يكون شاملا ومتعددا، فلا يقتصر على « دولة « تضع حدا لاحتلال العام 1967 وحسب، دولة لنحو 40% من الشعب الفلسطيني المقيم بغزة والقدس والضفة.
المهم أن يبدأ الكفاح، برصد كل مظاهر العنصرية في قوانين « دولة إسرائيل « وفي طبيعتها، ومن ثم في ممارساتها، وعدم التردد لحظة في تتبع طريق الكفاح المنتصر الذي قاد فيه نلسون مانديلا شعب جنوب أفريقيا لإسقاط نظام الفصل العنصري قبل نحو ربع قرن من الآن.
تقرير: خلف كواليس الإبادة في غزة.. مرضى الثلاسيميا يُقتَلون!
24 سبتمبر 2024