محمد علوش " جاد عزّت في "النّاقص منّي" مغامرة شعرية، مختلفة وعميقة

محمد علوش " جاد عزّت في "النّاقص منّي" مغامرة شعرية، مختلفة وعميقة
حجم الخط

إن الذائقة العربية الشعرية تمر بتحولاتٍ كثيرة، والقصيدة العربية تغير لونها وجلدها بما يتناسب وعصرها فهي دائمة التغير والتحول وتطرح نفسها بأشكال كتابية مختلفة ، وهذا العصر الذي نعيشه هو عصر سرعة وعصر لقطة وعصر " إشارة ضوئية خاطفة " ، هو عصر لا يمكّن الشاعر لأن يقول كثيراً ، لأن الزمن زمن سرعة ولأنه وببساطة أيضا قد ملّ الثرثرة طول تاريخه الشعري الطويل ، وها هو الآن يبتكر نمطا كتابياً جديداً ، نمطاً يختصر كل ما يمكن أن يقال في دفقة شعرية واحدة ، دفقة تشبه التماعة برق لثوان ، التماعة قادرة على إيجاز كل الحالة الشعورية لحظتها .

 

وقد تكون قصيدة ـ " الومضة " وسيلة من وسائل التجدد الشعري أو شكلاً من أشكال الحداثة التي تحاول جاهدة مجاراة العصر الحديث ، ولكنها رغم ذلك تبقى استجابة صادقة لصوت الشاعر الداخلي الذي يحاول أن يرسل من خلالها رسالة شعرية يضمن أن تصل إلى قارئه بأسرع وقت ممكن ، حاملةً له عالم الشاعر وذاته معبرة في الوقت نفسه عن همومه وآلامه .

 

و" الومضة " ، قصيدة النضج والدهشة فى أنقى معانيها ، بل هي اكتمال المعين الشعرى ، وهي قصيدة الصمت الإيجابي وميض برق خاطف في فضاء النص الشعري ، حيث تعددت آراء النقاد حولها ، فهناك من يرى ، بأن هناك اشكالية تتعلق بمسألة التحقيب فيما يخص القصيدة القصيرة ، كون هذه القصيدة ليست حديثة تماماً ، وهي ليست الحلقة الأخيرة في مسيرة تحولات الشعرية العربية الراهنة .

 

" النّاقص منّي " هي المجموعة الشعرية الثانية للشاعر جاد عزّت صدرت عن مكتبة " كل شيء – حيفا " 2017 وقد سبقتها مجموعته الشعرية " خاسرٌ أيها النبيل " 2012 وما يميز مجموعته الجديدة التي تقدم نفسها ونصوصها بشكل مختلف ، تقدم تجربة شعرية جديدة وتقدم الشّعر بصورة مختلفة عن كل الصور السابقة التي تعرضت له ، يقدم حالة شعرية تخصه ، عميقة ومكثفة وتحمل دلالاتها ، مما يؤكد أن الشّعر أكبر من أن يختزل بشكل معين وأنه أكبر من كل القوالب والمدارس والنظريات ، بل وأعمق من أن يكون سهلاً .

 

يلتقط الشاعر وردة الفرح والجمال ليوسّع مدارها ويسند روحه إلى شمولها ونفاذها دفاعها عن أسباب الحياة وسياق الخير العام المهدّد بالانقراض والنهش والمحو:

 

" أمسكت باقات الضّوء

 

كحزمة سنابل ألقتها الشّمس يوم زفافها ،

 

ورحت أبحث عن وميضها الأشقر

 

لأنحني وأقدّم خاتم قلبي

 

وما زلت أرفع نبضي " ( ص 14 )

 

لحظات مرّة يسافر فيها الشاعر إلى المجهول منتظرا الوقت القادم ، والغد الذي يحمل الوعد بما هو جميل حتى يمطر القلب خوف الغزال وماء الليل والنجمة الضائعة ، حيث يقول :

 

" تدعوني النّجوم

 

فأعود

 

محمّلاً

 

بشغف البرق " ( ص 47 )

 

شاعر فلسفته العميقة التي يخلعها على الموجودات ، وينظر من خلالها إلى الأشياء ، وهي ذات الشاعر نفسه التي تشعر بطغيان التناقضات على كل الزوايا وتحس بقلق وحيرة في مسيرة لا تمل ولا تكل نحو البحث عن الحقائق ، فيقول :

 

" لست مجوسيّاً يقصد المغارة الى الطفل

 

ولست راعياً يرى النّجمة المذنّبة ،

 

ولست ابن رسولةٍ عذراء ،

 

لكنّني الهدية ، في ليلة الميلاد " ( ص 66 )

 

إن الأضداد تتعانق في الخطاب لتنتج المعنى وتمهد الطريق إلى اليقين ، حيث يقول مختصراً المسافة بينه وبين المتلقي :

 

" النّاقصُ منّي ،

 

هو الزّائدُ في الأشياء ،

 

يا لعمري المُبعْثَر في الحياة ! " ( ص 46 )

 

" ينشغل الشاعر بتفاصيل قلّما انسرب اليها الشعر ، حيث الشهوة التي ترتقي الى مقام الشّغف النّاصع والضّعف الانساني النّبيل والعاطفة الحارقة ، عندما يتعلق الأمر بعائلة الشاعر أو بشقيقه الشهيد ، مع حضور متوقع ومنتمٍ وحاسمٍ لفلسطين التّي تتراءى خلف الكلمات المدماة ، تأكيداً على حضورها وبقائها موضوعاً ساخناً ، بالضرورة ، ومظلمة ملتهبة ، تلّف كلّ حياتنا وننغمس فيها حتى آخر نبضة في الكلام ، دون اغفال عن هوامش السّواد والنّتوء " كما يكتب الشاعر المتوكل طه في تظهيره للمجموعة .

 

يقول الشاعر في الفقرة 164 من المجموعة :

 

" تناديني باسم أخي

 

فتبكي كلّما اخطأت !

 

ثمّ تناديه

 

فأقف أمامها ، فتقول لي :

 

( برضاي عليك ) لا تتأخّر ! " ( ص 86 )

 

وفي الفقرة 155 من المجموعة تتجلى حالة استحضار الشهيد ، رامي ، شقيق الشاعر ، مستدرجاً حياة هذا الشاعر الذي لم يمت من خلال استحضار والد الشاعر أيضاً ضمن حالة تراجيدية مكثفة ومفعمة بالمشاعر الانسانية وحالات الشاعر الوجدانية ، حيث تتجلى الشعرية لدى الشاعر هنا في اطار لغة مكثفة تقوم على بنية شذرية جلية ، كما أن الصور الشعرية التي يوظفها الشاعر تخدم مقاصده وأبعاد نصوصه الدلالية :

 

" رأيت فيما يرى النّائم ،

 

أنّك كنت تمشي الخيلاء في عرس ( رامي )

 

الشّهيد

 

وكانت الجنّة مضاءةً

 

وكنت أرقص فوق الماء " ( ص 82 )

 

ثم يضيف :

 

" على المقبرة وهم يدفنون رامي

 

ضمّني ابي

 

حتّى كاد يضغط أضلاعي ،

 

وثمّة سهمٌ نفذ الى قلبي " ( ص 82 )

 

ما يكتبه الشاعر جاد عزّت ، يأتي في اطار المفارقة والاختلاف ومحاولة النأي بعيداً عن ما هو سائد في حركة الشعر الفلسطيني ، وهذا الشعر ذو اللحظة الانفعالية ، والدفقة الشعورية ، يتطلب ذكاءً نافذا من الشاعر، ونباهة عالية من المتلقي/ القارئ ، لأن القصيدة المدونة مبنية على صورة واحدة تحمل فكرة واحدة ، وانطباعاً واحدا بتكثيف شديد لا يخل ببنيتها الشعرية البلاغية إلا انها تفتح افاقا واسعة في المعاني والمدلولات ، حيث يكتب في الفقرة 99 من المجموعة :

 

" أنا اللّاجئ

 

تجمّعت فيّ خيبات البلاد ،

 

وما زلت محكوماً بالمؤقّت " ( ص 50 )

 

وبمزيدٍ من التكثيف والارتقاء بالشعر الى أبعد مدى يفجر قنبلة الصمت ، كأنها لحظة برقٍ ضوئي يكشف جزئيات ما تحمله ، حيث يكتب الفقرة 126 :

 

" صمت أربعين عاماً

 

لكنّ الرّغبة لم تصمت " ( ص 66 )

 

يبتعد الشاعر هنا ، كل البعد ، عن الزيادات والحشو الذي لا طائل شعرياً منه ، مرتكزاً ومركزاً على الجمل القصيرة ذات الكثافة العالية ، والمفاجأة التي ترافقها الدهشة ، والوحدة العضوية القادرة على ايصال المعنى.

 

تكتنز نصوص " النّاقص منّي " قدراً هاماً وكبيراً من الإشارات المسكونة ببلاغة التكثيف ، وانطلاقا منها يتشكل متخيل كل نص على حدة ، من جهة ، ويتكون أفق لمتخيل جامع بينها ، من جهة ثانية. وبهذه الشاكلة تكون موضوعة الانطلاق منبثقة من العنوان الذي يجمع هذه النصوص الشذرية ، كما أن كل شذرة تستقل بذاتها وتكتفي بمنطوقها وظلال دلالاتها.

 

جاد عزّت يقدم جديده في معترك الشعر ، محلقاً بقصيدته بعيداً عن الشعرية السائدة ، يحاول التجريب من خلال " الهايكو " سابراً أغوار القصيدة ويعطيها من روحه المعذبة ومن يومياته ومن الأشياء البسيطة والمعاشة في واقعه الفلسطيني لتكون شعراً جميلاً وصادماً للذائقة الشعرية ، ولكنها صدمة ايجابية بكل تأكيد.

___________________

 

* شاعر وناقد من فلسطين