القراءة حياة وحياة أخرى. ويمكن البحث عن مليون طريقة تفسر لنا ذلك تتمركز كلها فيما توفره لنا القراءة من متع متعددة وفرص مختلفة نثري بها حياتنا ونتزود بخبرات جديدة وبحيوات جديدة أيضاً.
وعليه فإن من الضروري دائماً أن يكون ثمة حياة أخرى تنتظرنا. كأننا في كل كتاب نقرؤه نعثر على فرص جديدة من أجل أن نعيش حياة أخرى.
الكتب بذلك هي نوافذ مشرعة تأتي بريح الحياة، وهي توفر متعة لا تضاهيها متعة أخرى في الحياة حتى في المجتمعات قليلة القراءة كما في المجتمع العربي الحديث. بهذا فالقراءة فعلاً حياة وهي حياة متعددة الحيوات لا يمكن الانتقاص من ضرورتها.
كانت هذه تأملات بسيطة وأنا أشارك في فعالية مركز القطان للطفل في غزة الهادفة لتشجيع القراءة تحت شعار "القراءة حياة".
الفعالية التي شارك فيها أكثر من 350 طفلاً وطفلة من مدارس قطاع غزة قاموا خلالها بالانهماك بقراءة الكتب المختلفة في مكتبة المركز الثرية فيما يتعلق بكتب الطفولة والفتيان، كما تم خلال الفعالية قراءة القصص للأطفال وقامت مجموعة من الحكواتية بسرد القصص الشعبية والعالمية على الأطفال بطريقة مشوقة.
إلى جانب ذلك ردد الأطفال بين جنبات الكتب أناشيد وأغاني متعددة. كان منظر الأطفال وهم يفترشون الأرض في الممرات بين رفوف الكتب فوق البسط والسجاجيد محلية الصنع يقترح بأن متعة القراءة لا تضاهيها متعة أخرى.
بالطبع التحريض على القراءة مهمة شاقة في مجتمع لا يقرأ كباره، فكيف يكون الأمر حين تحرض صغاره على القراءة.
مهمة شاقة من أكثر من جانب. فحين لا يقرأ الكبار فإن الصغار لا يجدون من يحفزهم على القراءة.
وفي الوقت الذي لا تتوفر المكتبات العامة في الأحياء والضواحي فإن العثور على الكتاب يكون مهمة أكثر صعوبة وتكاد تكون مستحيلة مع الوضع الاقتصادي الصعب الذي يواجهه المجتمع حيث يكون شراء رغيف الخبز أهم بكثير من شراء الكتاب، وحين يكون سعر الكتاب أيضاً مرتفعا حتى بالنسبة لأصحاب الدخل المتوسط، فإن الصورة تبدو أكثر قتامة والمهمة أشد صعوبة.
وعليه فإن التحريض على القراءة قد يبدو مثل استصلاح الصحراء. مهمة مزدوجة تشمل الحفاظ على الأشجار الموجودة ومحاربة التصحر من جانب ومن جانب آخر استنبات أشجار جديدة. واحة القراءة في صحراء يغيب فيها أصحاب الكتب.
قد لا يكون الوضع أيضاً بهذا السوء، فهو علي الأقل أفضل من السابق ولو بقليل. وكأننا نقارن بين وضع سيئ ووضع اقل سوءاً.
ففي السابق، على الأقل في تلك الأيام من طفولتي وطفولة جيلي ومن سبقني لم تكن هناك مكتبات عامة ولا مؤسسات تشجع على الكتابة ولا على القراءة.
كما أن مكتبات المدارس لم تكن موجودة وفي أحسن الحالات لم تكن تضم إلا عشرات الكتب التي لا تشفي غليل أي قارئ جاد، ناهيك عن التذكير بعناوينها ومحتوياتها.
كان الأمر لا يتعلق بالجودة، حيث إن الكمية نادرة. اختلفت الأمور قليلاً، لكنها لم تختلف بصورة كبيرة.
ثمة مراكز ومكتبات بعضها تابع للبلديات ومكتبات في الجامعات وفي بعض المدارس، لكن أيضاً مجتمع القراء ليس بالكبير.
ويمكن للمرء أن يذهل إذا ما أجرى استفتاء بين طلاب الجامعات في غزة ليكتشف أن القراء أيتام.
على صفحات "الأيام" قبل قرابة 16 سنة أجريت تحقيقاً على الصفحة الثقافية حول معرفة خريجي الأدب العربي في جامعات غزة بالأدب الفلسطيني.
يمكن مراجعة التقرير لمعرفة الحقائق الصادمة. ربما أيضاً يختلف الوضع قليلاً الآن، لكن السؤال إلى أي مدى يختلف!
الأمر المتعلق بهذا هو الدور الذي تقوم به الجهات الرسمية في دعم الثقافة في غزة. باستثناء الشعارات والعبارات الكبيرة والمقابلات وبعض الإشادات البلاغية فإن المؤسسة الرسمية لا تقدم شيئاً لدعم الثقافة في غزة.
وربما أن يوم الثقافة الوطنية الذي يصادف ميلاد الجميل محمود درويش، أيضاً باستثناء المديح، لا علاقة له بغزة.
المؤسسة الرسمية تقف عاجزة أن تكون وفية أمام خطابها في دعم الثقافة في غزة كي تترك غزة لنهب الخطاب ونهش الثقافة المغايرة التي تحرف غزة عن جوهرها الوطني.
تظل تلك المحاولات التي تقوم بها بعض مؤسسات المجتمع المدني والمنشغلون بالثقافة وهي محاولات على قلتها تظل أفضل من الصحراء التي يمكن أن يواجهها واقع الثقافة في القطاع الذي يتباكى عليه الجميع.
ليس أن على المؤسسة الرسمية أن تصرف على الثقافة أو أن تقوم هي بالفعل الثقافي في الوضع الطبيعي، ولكن أمام ما يواجهه القطاع وما يشكله غيابه من تغييب لجزء أساس من الوطنية الفلسطينية وما يصار إليه من حرف لهويته الوطنية الفاعلة واستبدال بعض مميزات هذه الهوية، فإن التوجه للقطاع ثقافياً هو مدخل مهم من أجل الإبقاء عليه داخل النسيج العملي لتطور الهوية وتماسكها.
خلال لقاء لي بمجموعة من الصحافيين الشباب من خريجي كليات الإعلام، هالني أن أحداً منهم لا يعرف بشيء اسمه يوم الثقافة الوطنية. هذا بدوره يخبر الكثير عن التدخل في مجال الثقافة.
عموماً إذا كانت "القراءة حياة" كما يقول الشعار الجميل الذي رفعه مركز القطان للطفل فإن الحياة بحاجة لمن يبحث عنها.
والبحث عن هذه الحياة يتطلب المزيد من الجهد، والكثير من العمل والإصرار على التكاتف بين العمل الأهلي الذي يقوم به مركز القطان للطفل في غزة وبعض المجموعات الشبابية العاملة في مجال الثقافة مثل شباب مجلة 28 وغيرها من المؤسسات والمراكز مثل مؤسسة تامر واتحاد المراكز الثقافية واتحاد الكتاب والمراكز الأهلية في المدن والمخيمات والقرى وبين المؤسسة الرسمية التي يجب أن تقوم بمسؤوليتها في سبيل التحريض على الثقافة ودعم النشاط الثقافي وتسمين مجتمع القراء.