بعد توقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تصاعدت التساؤلات حول «اليوم التالي»، وكيف سيكون شكل الحكم في القطاع، خاصة بعد ما تسرّب عن استعداد حركة حماس للتخلي عن إدارة غزة، وفتح الباب أمام ترتيبات جديدة بإشراف دولي وإقليمي. وفي هذا السياق، برزت خطة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير التي رفعت شعار «إعادة الإعمار وبناء الحكم الرشيد»، لكنها تُعيد في جوهرها إنتاج صيغة «الانتداب الدولي» بثوب إداري واقتصادي حديث.
أولاً: جوهر الخطة ومضمونها
تقترح خطة بلير إنشاء هيئة دولية مؤقتة باسم «هيئة الإدارة الانتقالية الدولية لغزة (GITA)»، بتفويض من مجلس الأمن ولمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، يرأسها بلير بصفته «المفوض السامي». وتتمتع الهيئة بصلاحيات شاملة تشمل الإدارة المدنية، والتشريع، والأمن، والإعمار، بمشاركة شخصيات دولية وإقليمية وبعض الكفاءات الفلسطينية التكنوقراطية.
تبدأ المرحلة الانتقالية من مقر في العريش، ثم تنتقل لاحقاً إلى غزة. وتخضع الأجهزة المحلية – بما فيها الشرطة والبلديات – لإشراف مباشر من الهيئة، بينما تتولى «قوة أمنية دولية» متعددة الجنسيات حفظ الأمن ومنع عودة الفصائل المسلحة، مع استمرار التنسيق الأمني مع إسرائيل ومصر والولايات المتحدة.
ورغم أن الخطة تؤكد أن هدفها النهائي هو تهيئة الظروف لعودة السلطة الفلسطينية، إلا أن ذلك مشروط بإصلاحها وأدائها، دون تحديد سقف زمني، ما يعني عملياً احتمال استمرار الوصاية إلى أجل غير معلوم.
ثانياً: الإيجابيات المعلنة
من الناحية الشكلية، تبدو الخطة محاولة لتجنب الفوضى بعد الحرب، وتأمين إطار دولي لإعادة الإعمار وتنسيق المساعدات، خاصة مع إشراك أطراف عربية كـمصر وقطر وتركيا، وهو ما يخفف من حساسية «التدويل». كما أن الاعتماد على كفاءات فلسطينية وتحييد الصراع الفصائلي مؤقتًا قد يُسهم – نظريًا – في التمهيد لانتخابات أو ترتيبات حكم أكثر استقرارًا.
ثالثاً: الملاحظات الجوهرية والسلبيات
القراءة المتعمقة تكشف أن الخطة تحمل مشروعاً سياسياً يعيد تشكيل النظام الفلسطيني تحت إشراف دولي، بما ينسجم مع الرؤية الأمريكية – الإسرائيلية لما بعد حماس.
1. وصاية سياسية وأمنية: الهيئة المقترحة بصلاحياتها الواسعة تجعل القرار الفلسطيني مرهونًا بالخارج، وتؤسس لمرحلة انتدابية جديدة تتحكم في مفاصل الحياة الفلسطينية من خارجها.
2. إقصاء المقاومة: رغم لغة «الاستقرار»، إلا أن جوهر الخطة هو تفكيك بنية المقاومة ومنع إعادة بنائها، فوجود قوة أمنية دولية بمهمة «ملاحقة الجماعات المسلحة» يعني عمليًا نزع سلاح المقاومة وتجريم فعلها الوطني.
3. تهميش السلطة الفلسطينية: الخطة تحوّل السلطة من جهة سيادية إلى طرف يخضع للتقييم والوصاية، ما يضعف شرعيتها ويكرّس الانقسام.
4. الهوية الوطنية تحت الوصاية: السيطرة على القطاعات القضائية والإدارية والبلدية تفتح الباب لتغلغل مؤسسات وشركات غربية وعربية في مفاصل القرار، لتصبح غزة حقل تجارب لـ«الحكم الهجين» بين المحلي والدولي على حساب الإرادة الوطنية.
رابعاً: الأبعاد الاقتصادية المغلّفة بالسياسة
الجانب الاقتصادي في خطة بلير ليس منفصلاً عن أهدافها السياسية. فبلير، صاحب مفهوم «السلام الاقتصادي»، يربط إعادة الإعمار بضمانات أمنية، ويمنح المستثمرين الدوليين دورًا مركزيًا في توجيه التنمية. تتحول غزة بذلك إلى ساحة للخصخصة السياسية، حيث تُستخدم مشاريع الإعمار أداة للضبط الاجتماعي لا وسيلة للتحرر الوطني.
خامساً: الموقف الفلسطيني المطلوب
إزاء هذه التطورات، تبرز الحاجة إلى رؤية وطنية فلسطينية موحَّدة تسبق أي مبادرة خارجية، بحيث تحدد القوى الوطنية شكل إدارة المرحلة المقبلة وآليات الإعمار وإعادة بناء المؤسسات. ترك الساحة فارغة سيتيح للآخرين فرض وصايتهم، وتكرار تجربة «الانتداب» في ثوب أممي جديد. يمكن الترحيب بالدعم الدولي الإنساني، لكن دون السماح بتحويل القطاع إلى نموذج للوصاية الأجنبية المقنّعة.
خاتمة..
خطة بلير، بعناوينها البراقة، تمثل مشروعاً لإعادة هندسة المشهد الفلسطيني تحت مظلة دولية – غربية، تخدم الأمن الإسرائيلي أولاً. وأي مشروع سلام أو إعمار لا ينطلق من الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية، ولا ينهي الاحتلال فعلاً، سيبقى شكلاً آخر من أشكال السيطرة.
لقد جرّبنا من قبل شعارات «الإصلاح والإعمار» حين كانت غايتها السياسية ترويض الشعوب لا تحريرها. واليوم، تقف غزة أمام اختبار جديد لوعيها الجمعي وقدرتها على حماية مشروعها الوطني من محاولات إعادة الوصاية، وإن جاءت هذه المرة بوجه دولي أنيق.