زياد خداش " سرقوا شمسي لكنهم أهدوني مجرة حب "

زياد خداش " سرقوا شمسي لكنهم أهدوني مجرة حب "
حجم الخط

مثل انفجارٍ ضروري مفاجئ. دوّت الأغنية الفلسطينية (الحب الترللي) في الفضاء الموسيقي الفلسطيني مالئة الأجواء الثقافية والشعبية فرحاً طازجاً وأسئلة جديدة, ما الذي حدث بالضبط؟

كنت أجلس هناك في صباحٍ مشمسٍ مبكّر على رصيفِ مقهى الانشراح، آكلُ فستقاً وأعاني من وجع ظهرٍ مخيف وكانوا هم سبعة؛ ستة شبان وشابة، متحمسون يضحكون، يغلقون سيارة ويفتحون أخرى مخرجين آلات موسيقية وأغراضا، لقد أزعجوا شمسي! و كسروا وجه صباحي، من هم هؤلاء المزعجون؟

وصل الإزعاج ذروته حين تقدم إليّ أحدهم ( إبراهيم نجم ) وهو صديق دمث جداً ليطلب مني بلطفه المعروف الذي لا يقاوٓم الانتقال إلى مكان آخر لأني أغلق بوجعي و فستقي مدخل دكانٍ قديم يخططون لتصوير إحدى لقطات أغنيتهم فيه.

غادرتُ المكانٓ كله مطرودا، مخفياً استيائي كعادتي الحقيرة الجبانة، نافضاً عن ملابسي قشور الفستق ومهرولاً إلى البيت في محاولة مني لتصحيح قامتي المنحنية إلى اليمين، والتي من المحتمل أنها أثارت ضحكة (المزعجين السبعة )

مضت عدة أيام، فوجئت في صباح مدرسي كئيب بفيديو كليب يظهر فيهِ سارقو الشمس المزعجون وهم يغنونٓ أغنية عن "الحب الترللي" صادرة عن فرقة اسمها ( الأنس والجام ) وقبل أن أبدأ بمشاهدة وسماع الأغنية قلت لزميلي مدرس التاريخ والذي لم يسمعني أصلا: ها هم شبان جدد فلسطينيون متحمسون يحاولون أن يفعلوا شيئاً، حتماً سيكون هذا الشيء مكرر وممل وشعاري وثقيل وفلسطيني جدا؛ ‏‎لكن التوقع لم يكن في محلهِ أبداً! ‏‎هزت الأغنية بكلماتها ولحنها وأداء مغنيها كآبة يومي من جذورها، ركلتها بعيداً وأهدتني عسلَ ايقاعٍ مختلف وحريرَ عطش حلو وخاص.

لأول مرة أشاهد اغنية فيديو كليب فلسطيني، مصنوعة بكل هذا الهدوء والجمال الصامت والذكاء (هل لدينا اغاني فيديو كليب اصلا).

لأول مرة أرى هذا الانسجام بين أداءات العازفين، الكلمات البسيطة الخالية من فلسطين الصاخبة والنائحة، والذاهبة إلى فلسطين الحب والإنسان، طاقة الحب التي وجوه العازفين والمغنيين، حلمية العمل كله، كأننا حلمناه، الغياب الواضح للادعاء،اللحن العبقري، لغة الأغنية شديدة القرب من تجارب الناس وعمقها وشعريتها العالية في آن، اللقطات الخفيفة الهامسة الحلوة، صوتا محمد وميرا الكريستاليان.

‏‎أنا لا أفهم كثيراً في الموسيقى ‏‎و أحياناً لا أستطيعُ أن أميزٓ بين آلة موسيقية وأخرى، الموسيقى تماماً مثل الحب ‏‎أنا لا أعرف لمٓ أحببتُ مريم السمينة قليلة الكلام قبل ثلاثةِ عقودٍ مضت، لكني أعرف أنها كانت أغنية حياتي، ‏‎جمعتُ طلابي المبدعين ( هكذا أفعل حين يهيجني عمل فني أو كتاب) من مختلف الصفوف وسط احتجاج المدرسين المعتادة! ‏‎أسمعتهم الأغنية، أحبوها، طلبوا أن نغنيها معاً، فعلنا ذلك ‏‎تحولت إلى طالب مثلهم، صعدنا على الطاولات تمايلنا بميوعةٍ رائعة مثل عشاقٍ خجلين، عانقنا أشخاصاً متَخيلين نحبهم، ‏‎وطارت أيادينا مع معاني الكلام وسحابات اللحن؛ إلى ذرى مشاعر جديدة جداً جداً.

سأقول كلاماً يغيظُ الكثيرين كلاماً سبق وأن قلته عن أعمال فنية أخرى، وأحدثٓ كما سيُحدِث هذا الكلام عواصفَ من النقدِ والرفضِ والاتهامات سيعتبر كلامي البعض مبالغة، ربما مع البعض حق في ذلك، فأنا أتحول لطفلٍ أمامٓ أي عمل فني مباغت وغريب عن سياقنا الممل.

شاهدت مذهولا مسرحية ( ألاقي زيك فين يا علي ) و اعتبرتها فتحاً في المسرح الفلسطيني، أحتج الكثير من المسرحيين واتهموني بالرعونة الفكرية والطفولة العاطفية، قلتُ لهم: هناك العديد من المسرحيات الفلسطينية الناجحة والمسرحيين المبدعين؛ لكن ما أراهُ أمامي اليوم مختلف! أنا أكتبُ رجّاتي وعواصفي التي يتسبب بها عمل أُحس به عميقاً وقريباً من القلب وحقيقياً مثل قمر الصيف، أنا لستُ ناقداً للمسرح ولا الموسيقى وقلتها مراراً: أنا كاتب انطباعات وهواجس وامتدادات عاطفية وذاتية، أركض مثل مجنون وراء كل شيء حقيقي عفوي، في قلبي رادار دقيق أكشف من خلاله المزور من الطبيعي ابتداء من ابتسامات الاصحاب وحتى خواتم المسرحيات وبدايات القصص.

أنجذبُ للطبيعي على الفور ولم يخذلني حدسي أبداً، حتى الآن. من الآن وطالع، لن اكتفي بتلويحة يد وابتسامة صغيرة لأحيي صديقي سامر الصالحي كاتب الأغنية، الأغنية، سأنتظره في شارع السهل وأعترض سيارته المسرعة وأقبله بين العينين.

أما إبراهيم نجم ملحن الأغنية فسأحبه كثيرا في الأيام القادمة وسأحدث طلابي وأمي عن محمد مصطفى وميرا أبو هلال مغنيا هذا الحب الشاسع، بينما سأفخر كثيرا بعازفي الأغنية الآخرين جوزيف دقماق، حسين أبو الرب، محمود كرزون وأمير ملحيس. هؤلاء (المتحمسون السبعة الأوغاد) سرقوا شمسي ذات صباح انشراحي، لكنهم أهدوني مجرة شموس، مجرة حب