ملاحظات حول "حزب التحرير"

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

في السنوات القليلة الماضية أخذ حزب التحرير يصعّد من نشاطاته في فلسطين، بتظاهرات حاشدة (أغلبها ضد السلطة) تضم أعدادا فاجأت المراقبين؛ بعد أن ظلت فلسطين ولعقود طويلة خارج حسابات الحزب، نظراً لاستحالة إقامة "خلافة" فيها بوجود الاحتلال.. فما هي طبيعة هذا الحزب، وما الذي يميزه عن الآخرين؟
تشترك جماعات الإسلام السياسي في نقطة مركزية، هي الخلط بين الدين والسياسة، أو بمعنى آخر توظيف الدين لصالح السياسة؛ لكنها تختلف وتتمايز فيما بينها في أمور كثيرة، ومن الخطأ التعميم عليها بتوصيفات محددة.
فمثلا، لو وضعنا "داعش" في أقصى اليمين المتشدد، ستنزاح إلى يسارها بقية الجماعات، حتى نصل إلى من يوصفون بالإسلاميين العلمانيين.. وبين هؤلاء وهؤلاء طيفٌ واسع من التنظيمات والأيديولوجيات، ودرجات متفاوتة من التشدد، واختلافات جوهرية في الرؤى والأساليب.. بل وتفاوت وتمايز داخل الجماعات نفسها، خاصة تلك التي تتمتع بقاعدة شعبية عريضة مثل الإخوان المسلمين.
من بين كل جماعات الإسلام السياسي يأتي "حزب التحرير" متميزا ومنفردا بسمات معينة، أهمها تماسكه الأيديولوجي، وثباته على مبادئه بدرجة كبيرة.. ولتوضيح ذلك نحتاج أن نلقي نظرة سريعة على بقية الجماعات، وفهم السمات والقواسم المشتركة بينها، وأبرزها التغير والتحول في خطابها السياسي والأيديولوجي، وانشقاقها عن بعضها.
لو بدأنا بالإخوان المسلمين (أكبر وأهم الجماعات) سنجد أن خطابهم تغير أكثر من مرة، وسنجد تبدلا في مواقفهم لدرجة حيرت المراقبين، مثلا موقفهم من المشاركة السياسية، وقد تجلى هذا التغير (الانقلابي) بوضوح بعد استلامهم الحكم في مصر، وخاصة إزاء قضايا الصراع العربي الصهيوني، وكامب ديفيد، والعلاقات مع أميركا والغرب وإسرائيل، والانفتاح على العالم، وحتى في إدارة الدولة، وهويتها.
وسنجد داخل الجماعة تيارين أساسيين: الأول خَطّه "حسن الهضيبي" في كتابه "دعاة لا قضاة"، والثاني أسسه "سيد قطب" في "معالم في الطريق".. وسنجد أيضا من خرج عنها، سواء التنظيمات التي انبثقت عنها، أو الأفراد الذين انتقدوها بشدة، منهم "أيمن الظواهري" في كتابه (الحصاد المر)، أو "ثروت الخرباوي" (سر المعبد)، وغيرهم.. ومؤخراً، أصدرت الجماعة وثيقة بعنوان "تقييمات ما قبل الرؤية"، أعدها فريق من الجماعة، تمثل عملاً نقدياً عميقاً لأداء الإخوان السياسي خاصة في حقبة محمد مرسي.
جماعة الإخوان في الأردن أسست حزب جبهة العمل الإسلامي كواجهة للعمل السياسي، وفي مرحلة لاحقة حصلت فيها عدة انشقاقات، نتج عنها "حزب الوسط الإسلامي"، وجماعة "زمزم"، وِ"مبادرة الشراكة والإنقاذ"، ثم حدث انقسام آخر في الجماعة؛ حين حصل "الجناح المعتدل" على ترخيص من الحكومة بزعامة "عبدالمجيد الذنيبات"، خلافا للجماعة الأم التي يتزعمها "همام سعيد"..
حماس أيضا، تغير موقفها من الانتخابات (المقاطعة ثم المشاركة)، ومن أوسلو (بدأت بانتقاد الاتفاقية واعتبارها خيانة، وانتهت بأن صارت جزءا من النظام السياسي الفلسطيني القائم على أوسلو)، وبعد سيطرتها على غزة تغير موقفها من المقاومة (الصواريخ مثلا).
في سورية ظهر في السبعينيات تياران متناقضان، الأول متشدد مثلته مجموعة "مروان حديد"، والثاني براغماتي مثله المراقب العام "عصام العطار"، وفي الأزمة السورية الراهنة أعلن الإخوان في 2012 أنهم لا يهدفون لتأسيس دولة إسلامية، وأنهم يقبلون بالدولة الديمقراطية المدنية.. في العراق اختلف موقف الجماعة بعد الاحتلال الأميركي، لدرجة أنهم شاركوا في الحكم (طارق الهاشمي).
كما ظهرت انتقادات مبطّنة وأخرى علنية، وفي الغرف المغلقة وعلى الملأ من قبل قيادات إسلامية في دول المغرب العربي؛ في تونس أعلن "راشد الغنوشي" مؤسس حزب النهضة أن حركته "ستخرج من الإسلام السياسي، وستتحول إلى حزب مدني، يفصل الدعوي عن السياسي".
في تركيا بدأ الإسلام السياسي مع "نجم الدين أربكان"، بتأسيس "حزب السلامة الوطني"، الذي انبثق عنه "حزب الفضيلة"، والذي بدوره تحول إلى "حزب العدالة والتنمية" بزعامة "غول" و"أردوغان"، وجميع هذه الأحزاب تعود بجذورها إلى حزب الرفاه وبنيته الفكرية، غير أنها ظلت تتكيف مع الوقائع السياسية الجديدة.
الجهاد الإسلامي في مصر أصدر وثيقة المراجعات، واعترف بالعديد من أخطائه السابقة، منها قتل السادات، وضرب الأهداف السياحية.. حتى تنظيم القاعدة انشقت عنه جبهة النصرة، والتي بدورها فرّخت "داعش"، وقد رافق هذه الانشقاقات ظهور تناقضات وصراعات عنيفة.
لا مجال لاستعراض المزيد من الأمثلة، التي تؤكد أن كل الجماعات الإسلامية غيرت وطورت في خطابها وأساليبها ومواقفها، وظهرت من داخلها تناقضات شديدة، وكانت دوما تقوى وتضعف، وتغير برامجها استنادا إلى الفرص المتاحة، وبناء على تأثرها بالظروف الموضوعية.. والعديد منها أجرى عمليات مراجعة ونقد ذاتي وصلت إلى حدود إعادة النظر في البنية التنظيمية والأيديولوجية، بل وإعادة تعريف الجماعة لنفسها ودورها، وإعادة تعريف موقفها من مفاهيم الديمقراطية والحياة المدنية والسياسية، شأنها شأن أية جماعة إنسانية، وشأن أية ظاهرة اجتماعية، لاسيما وأنها تضم شرائح واسعة من المجتمعات التي تعمل في وسطها.. ويمكن لعلم الاجتماع مساعدتنا في فهم طبيعة هذه التغيرات والخلافات وأسبابها.
الوحيد (تقريبا) الذي يشذ عن هذه القاعدة "حزب التحرير"؛ فمنذ تأسيسه قبل أكثر من ستة عقود لم يحصل فيه أي انشقاق، وظل محتفظا بتماسكه التنظيمي ومواقفه الأيديولوجية بشكل لافت، ولم نسمع أنه أجرى أي عملية نقد ذاتي، أو اعترف بأي خطأ، أو أعاد التفكير في مساره.. ولم يغير شيئا في برامجه ولا في خطابه، بل ظلت كما خطها مؤسس الحزب الشيخ "تقي الدين النبهاني" في بداية الخمسينيات من القرن الماضي.. رغم كل التغيرات الجوهرية والعميقة التي ألمّت في العالم، وفي المنطقة، وعلى كافة المستويات! ولو ناقشت أي "تحريري" في أندونيسيا، أو في مصر، أو المغرب، أو بريطانيا ستسمع منه نفس المقولات، وبتشابه يكاد يكون حرفيا، سواء حصل ذلك في سبعينيات القرن الماضي أو قبل يومين، أو بعد سنوات.
البعض يعتبر هذا نوعا من التكلس الفكري، والتصلب السياسي، أدى إلى عزلة الحزب وتقوقعه داخل إطاره التنظيمي، وفقدانه الخبرة العملية اللازمة للعمل السياسي وبناء مؤسسات الدولة وصناعة القرار.. ويفسرون تماسك الحزب لأنه نخبوي، وأهدافه مثالية متعالية على الواقع.. والبعض اعتبره ثباتا مبدئيا عقائديا، يدل على رسوخ الفكرة وتجذرها.. في كل الأحوال الظاهرة تحتاج إلى دراسات علمية معمقة.