الحركة السلفيِّة في قطاع غزة:ركيزة وطنية أم عبء وتهديد؟!

thumbgen (21).jpg
حجم الخط

 

لن نتناول هنا الحديث عن الحركة السلفية بشكل عام، فهذا عالم لا تنتهي مجاهله، وليس من اليسير سبر أغواره، ولكننا سنركز على الحركة السلفية في قطاع غزة، واستكشاف وجوهها الهادئة والصاخبة، وما الذي تشكله بالنسبة للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية، وكيف يقرأ الشارع – بشقيِّه الديني والعلماني – حضورها، وما تمثله من مبادئ وأفكار، وكيف تبدو هي في عيون أتباعها، وكيف تراها النخب وفصائل العمل الوطني والأجهزة الأمنية، وما هو تقييم المؤسسة الدينية الرسمية لأنشطتها الدعوية داخل المساجد وخارجها، وهل بالإمكان استيعاب من اعتمد العمل الجهادي منها داخل منظومة الرباط والفعل المقاوم، وهل هي جزء من رؤيتنا لمشروع التحرير والعودة، وهل التخوفات التي يتهامس بها البعض مشروعة أم أنها مجرد مبالغات وتوجسات وتحريض لا مبرر له، وهل ما يحدث من مواجهات دامية في بعض دول الجوار تنسب لهذا التيار يمكن أن تقع بيننا في قطاع غزة، وما هي حقيقة الادعاءات الإسرائيلية المتكررة بوجود عناصر لتنظيم الدولة (داعش) في قطاع غزة، وهل؟ وهل؟؟؟... الخ

عشرات الأسئلة التي تخطر في بال البعض أو لا تخطر سنتناولها هنا بالإجابة والتوضيح.

السلفية الجهادية: نبذة تاريخية

لم تكن الحركة السلفية كتيار ديني تشكل تهديداً لأحد بشكل عام، وكانت مع حركة الإخوان المسلمين هما أهم مكونات الحراك الإسلامي الدعوي في العقود الأربعة الأخيرة، وربما كانت ساحة الجهاد في أفغانستان من أكثر الساحات التي شهدت لهما بالعمل المشترك، وتقديم صورة مشرقة للتحالف بين التيارات الإسلامية الحركية دفاعاً عن قضايا الأمة.

في أفغانستان وطوال فترة الثمانينيات قاتل الطرفان السوفييت جنباً إلى جنب، إلى أن تحقق الانتصار ورحل الجيش الأحمر - مذموماً مدحوراً - عن أرض الأفغان، وأعقب ذلك في مطلع التسعينيات انهيار الاتحاد السوفيتي، مما أوجد حالة من الانتشاء والشعور بالعزة والفخر والكرامة بين الإسلاميين في كل مكان.

بعد هزيمة السوفييت، انتكست علاقة الإسلاميين بالغرب، وخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية، بسبب ما اعتبروه خيانة لهم، كان مرجعها تخلى الأمريكان – حليف الأمس - عنهم، والتآمر عليهم عندما حاولوا العودة إلى بلدانهم العربية والإسلامية، فبدل التوصية باستيعابهم والاحتفاء بعودتهم بعد أن مرَّغوا أنف السوفييت في التراب، وحسموا مرحلة الصراع وسنوات الحرب الباردة لصالح أمريكا وحلفائها الغربيين، قامت أجهزة أمن تلك الدول - للأسف - بالوشاية بهم والتحريض عليهم!

إن خيانة الأمريكيين للأفغان العرب هي من أسسَّ للعداء والكراهية وحرك رغبات الانتقام، وحرف بوصلة بعض الكوادر والقيادات التي كانت محسوبة على التيارات الإسلامية؛ الإخوانية والسلفية، ليخرج من رحم هذا الغضب والمظلومية الإسلامية تنظيمات جديدة هي أشد تطرفاً وغلواً وتطلعاً للثورة والعنف، كما شاهدنا ذلك في تنظيم القاعدة بقيادة أيمن الظواهري وأسامة بن لادن وأبو مصعب الزرقاوي ثم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي أعلن أميره أبو بكر البغدادي الخلافة في حزيران 2014!!

من الجدير ذكره، إن المواجهات بين أمريكا وتنظيم القاعدة بدأ الإعلان عنها رسمياً بعد أحداث 11 ايلول 2001، التي استهدفت مركز التجارة العالمي في نيويورك ووزارة الدفاع الأمريكية، وإن كان قد سبق ذلك تفجيرات للسفارة الأمريكية في كل من تنزانيا وكينيا في آب 1998، ثم جاء تدمير البارجة الأمريكية (يو إس إس كول)، التي كانت ترسوا في ميناء عدن في تشرين الاول 2000. بعد هذه العمليات الناجحة لتنظيم القاعدة، أعلنت أمريكا حربها المفتوحة على تنظيم القاعدة، فيما سمي بـ"الحرب على الإرهاب"، والتي أخذت طابعاً عالمياً، حيث طاردت فيه أذرع أمريكا الأمنية والعسكرية قواعد تنظيم القاعدة ورجالاتها في كل مكان.

بلغ تنظيم "الأفغان العرب" حوالي 45 ألف مقاتل وناشط إسلامي، جاءوا من كل بلاد العرب والمسلمين لنصرة إخوانهم المجاهدين في أفغانستان، وعندما عادوا إلى بلدانهم أعادوا هيكلة أنفسهم في تنظيمات جهادية مختلفة، ولكنها ظلت على ولائها لقياداتها التاريخية في أفغانستان، وقد انخرط بعضها في صراعات مع أنظمة الحكم المستبدة في بلدانها، وأيضاً في مواجهة أمريكا ومصالحها الاستراتيجية بالمنطقة.

وللحقيقة التاريخية، ومن باب توضيح الأمور ومآلات الرواية السردية للأحداث، فإنه في الوقت الذي حاول فيه شباب الإخوان والسلفيين العائدين من أفغانستان تكييف واقعهم الدعوي والسياسي في بلدانهم، وتحمل كل ما لحق بهم من ظلم وأذى بسبب خيانة الأمريكان، إلا أن الكثير من بينهم - وخاصة عناصر الحركة السلفية - مالوا إلى التطرف وممارسة العنف ضد أمريكا واستهداف مصالحها الحيوية، بما في ذلك حلفائها الاستراتيجيين بالمنطقة. ولعل هذا هو السرُّ وراء هذه الحرب المفتوحة بين الطرفين، والتي نشهد كوارثها وويلاتها بشكل سافر في العراق وسوريا وليبيا، وإن جنحت للظهور في ثوب طائفي يقتل فيه المسلم أخاه المسلم، فيما الحقيقة هي أن عرَّاب هذه المعارك والمواجهات كلها هي أجهزة استخبارات عالمية وعملائها في المنطقة.

التيارات السلفية في قطاع غزة: أفكار واتجاهات

إن الحركة السلفية اليوم هي على ثلاثة اتجاهات، وإن كان التيار الجهادي منها هو الذي يطفو على السطح، كون أدبياته تغلب عليها لغة التطرف والغلو، وهو يميل في ممارساته للعنف وتكفير المجتمع، وحمل السلاح والخروج على الدولة، ولا يرى لغيره من الإسلاميين شرعيِّة أو سبيل!!

فمن خلال المقابلات الكثيرة التي أجريتها مع رموز هذه التيارات السلفية بأسمائها المختلفة، وصلت إلى نتيجة مفادها أن الغالبية العظمى من قيادات وكوادر هذه التيارات تميل إلى الوسطية والاعتدال، وأن الخصومات القائمة بينها وبين الآخرين بالإمكان تسويتها، ولكن الخلاف حول السياسة والموقف منها، ووجود حكومتين في كلٍّ من غزة ورام الله، هي وراء انزواء البعض وتحفظاتهم، وغياب الانفتاح والتنسيق - بالشكل المطلوب – مع المؤسسات الحكومية في القطاع، كما أدى لجنوح بعض أتباعها والتحاقهم بالعناصر المتطرفة، كما أن غياب دور فاعل للإسلاميين الحركيين في المساجد بالشكل الذي كان قائماً قبل عام 2006، هو الذي أوجد فراغات في الخطاب الديني العلمي والممنهج، الأمر الذي أدى لواجهات دعوية أخرى للقيام بملئه، كما أشار الحكماء منذ زمن طويل بأن "الطبيعة ترفض الفراغ"، إضافة للظروف الإنسانية والمعيشية الصعبة التي كرَّستها حالة الاحتلال والانقسام والحصار الظالم الذي يتعرض لها قطاع غزة.

إن التنامي المتزايد لأعداد السلفيين في قطاع غزة، وميل قلة منهم للغلو والعنف والتطرف، يستدعي استقراء الأسباب والدواعي وراء هذا الاندفاع والجنوح في هذا الاتجاه.

السلفية والمشروع الوطني: سؤال بانتظار الجواب!!

ما تزال الحركة السلفية في قطاع غزة في معظم مؤسساتها وتياراتها الدعوية والحركية تحظى بالمكانة والتقدير، وإن كانت بعض التجمعات الشبابية لها تحركات تبعث على الخوف والقلق، خشية تجنيدها من جهات تريد إبقاء قطاع غزة على صفيح ساخن، ولقد قرأنا العديد من الدراسات الأمنية التي تحدثت عن تنظيم الدولة (داعش) وارتباطاته المشبوهة بجهات استخباراتية إقليمية ودولية.

ومع الاعتقالات التي تمت في صفوف هذه المجموعات التي يطلق عليها السلفية الجهادية، تبين أن بعضها كانت له مخططات لتخريب الحالة الأمنية في قطاع غزة، وبدوافع ليس من الصعب التكن بأبعادها، ولا الجهات التي تقف خلفها.

وعليه؛ فإننا نؤكد بأن التيارات السلفية في معظمها بريئة من اتهامات الغلو والتطرف، وهي بعيدة عن حالة الانحراف الفكري التي عليها من تمَّ اعتقالهم والتحقيق معهم، ويمكن الاطمئنان لها واشراكها بكل متطلبات حماية هذا الوطن، والذود عن حياضه.

نعم؛ هناك ظاهرة عامة وهي عزوف قيادات هذه التيارات السلفية وأتباعها عن السياسة - قراءة وممارسة - مما يولد حالة من عدم الفهم لمعطيات ومتطلبات شئون الحكم، الأمر الذي يترتب عليه الخروج بقراءات وأحكام مسبقة وغير صائبة، خاصة مع غياب الوعي بمقاصد الشريعة وفقه الأولويات والمصالح المرسلة.

اتهامات الإرهاب: إسرائيل وتوظيف ورقة السلفية

لم تتوقف إسرائيل - ونتانياهو على وجه الخصوص - من توظيف ورقة التطرف والإرهاب، لتبرير سياساتها العدوانية ضد الفلسطينيين، حيث إن المزاج العالمي معبأ ضد الراديكالية الإسلامية في العالم العربي، وبالتالي تجد إسرائيل أن يدها طليقة في الرد العسكري داخل المناطق الفلسطينية المحتلة، حيث يكفيها الادعاء بأنها تقاتل الإرهاب وتستهدف المتطرفين، ليغض العالم الطرف عن كل ما ترتكبه من مجازر وجرائم بحق الإنسانية. فمرة تتهم الإسلاميين في فلسطين بأنهم يمثلون الأصولية الإسلامية، ومرة بأنهم امتداد لإيران والقاعدة، وأخيراً صارت تتحدث بأنها تواجه داعش في قطاع غزة!!

لا شك أن الهدف من وراء ذلك لا يخفى على أحد من العالمين ببواطن الأمور في المنطقة، حيث تستغل إسرائيل هذه الحملات الغربية في الحرب على الإرهاب الشرق أوسطي لتعطي نفسها صفة الضحية، التي تدافع هي الأخرى عن نفسها وعن الحضارة الغربية.

السلفية الجهادية والتهديدات العابرة للحدود

لا شك أن وجود جبهة عريضة لتنظيم الدولة في سيناء على الحدود الجنوبية لقطاع غزة، وقنوات تواصل قد تتوافر عبر الأنفاق على جانبي الحدود يصعب السيطرة عليها كلياً، يدفعنا إلى القلق والخوف من انعكاس ذلك على الحالة الأمنية في قطاع غزة، حيث إن هناك ما يبرر تحقيق التواصل بين هذه التيارات السلفية لتقارب الأفكار وحدِّة الاحتقان والخصومة مع الواجهات السياسية القائمة، الأمر الذي يفتح الباب لكوارث ومواجهات شبيهة بما يجري في العراق وسوريا.

وللحقيقة، فإن لحركة حماس مخاوفها المشروعة من بعض عناصر السلفية الجهادية، والتي قد لا تتورع في فتح جبهات مواجهة لنا مع إسرائيل خارج حساباتنا الأمنية والوطنية، كما لاحظنا عندما قام البعض منهم بإطلاق صواريخ بدائية الصنع باتجاه بلدات غلاف غزة دونما تنسيق أو تشاور مع الفصائل المسلحة، التي تشكل منظومة الحماية والدفاع عن قطاع غزة، وأعطى لإسرائيل – للأسف - الذريعة والمبررات الكافية لقيام طائراتها الحربية باستهداف مواقع للمقاومة في القطاع.

الحل الأمني: تكرار لتجارب عربية فاشلة

لم تنجح الحلول الأمنية يوماً في معالجة مسائل الاعتقاد، ولكنها تسببت في إخراج عناصر وتيارات أشد عنفاً وتطرفاً، وخلقت معها رغبات جامحة في القتل والانتقام.

إن ما نشاهده اليوم في العراق وسوريا وليبيا وسيناء إنما هو تراكم لمعالجات أمنية خاطئة لشباب لم يجدوا حاضنة إنسانية واجتماعية وسياسية تستوعبهم، وتجيب على تساؤلاتهم القاتلة حول ما يدور في بلدانهم من ممارسات خاطئة من ظلم وتسلط وقمع واستبداد، وكردة فعل لحالة التبعية والذل والهوان التي تعيشها بلدانهم وتعاني منها شعوب أمتهم.

لا شكَّ إن هؤلاء الشباب كانوا في منشئهم يبحثون عن الهداية، ويتطلعون للمعرفة الدينية، وبعد أن سلكوا درب الهداية بدأوا التفكير في العمل بكل السبل لاستنهاض أمتهم، وقد وجد بعضهم ضالته وإمكانية تحقيق ما يصبو إليه عبر الالتحاق بحركة الاخوان المسلمين وتبني أفكارها، فيما وجدها آخرون من خلال الجماعات السلفية بأسمائها المختلفة، وهناك من ساقته رياح الفكر الإسلامي إلى جماعة التبليغ والدعوة، والبعض وجدت ضالته في التصوف أو مع الغلو والتطرف، وانتهى الأمر بهؤلاء المتشددين إلى ممارسة القتل والارهاب، وصار استهداف المسلمين هو أحد غاياتهم تحت ذرائع وادعاءات ما أنزل الله بها من سلطان.

إن قطاع غزة فيه تنوعات مختلفة من التيارات السلفية، والغالبية فيها هي أقرب للعمل الدعوي والإغاثي الذي تمارسه تيارات إسلامية أخرى كالإخوان المسلمين وجماعات التبليغ، وهناك القلة القليلة التي جنحت بجهالة للغلو والتطرف، وتبنت أراءً وطروحات هي أقرب لفكر السلفية الجهادية، وهي ليست بالكثرة التي تشكل تهديداً على حالة «الأمن والاستقرار التي ينعم بها قطاع غزة»، كما أنها تفتقد للحاضنة الشعبية التي تمنحها الدعم والتأييد لأفكارها، إضافة إلى ان قطاع غزة يعيش معركة مفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي، وأن أي مواجهات داخلية يفتعلها هذا التيار المتشدد سيتم النظر إليها باعتبار أنها فعل خياني، وطعنة في الظهر للتيار الجهادي المرابط على ثغور الوطن والمقاوم للاحتلال .

ختاماً: أنصح بتوخي الحكمة والتعامل بالكلمة الطيبة

إنني أنصح بضرورة ابتعاد الأجهزة الأمنية عن أساليب المعالجة القمعية، وألا تميل لسياسة العصا الغليظة أو ما يدفع المعتقل من هؤلاء للتفكير - بعد الخروج - في الثأر والانتقام.

كما أتمنى أن تسود الحكمة أسلوب التعامل مع هؤلاء، فالمخطئ منهم يذهب لمحاكمة عادلة، ويتم التعامل معه بعد الحكم بما يليق بحفظ كرامته وإنسانيته، وأن تتاح له فرصة اللقاء والاستماع لجلسات مع الأئمة والعلماء المتنورين والمحسوبين على الحركة السلفية في قطاع غزة، والاستماع لأشرطة وكتب فقهاء الأمة وأعلامها المتميزين، مثل الشيخ عبد الفتاح مورو، والشيخ سلمان العودة، والشيخ أحمد الريسوني، والشيخ د. حاكم المطيري، والداعية د. طارق سويدان، والشيخ راتب النابلسي، والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، كما يتاح لهم ساعات من الترفيه في الهواء الطلق، وتوفير أساليب الراحة والتثقيف، حيث إن مرجعية هذا الغلو والتطرف وأحد أسبابه هي الكبت وقلة المعرفة والاطلاع، وعدم التوسع في مجالات الوعي بالفقه الإسلامي واستيعاب مقاصد الشريعة.

باختصار: بعد المحاكمة وصدور الأحكام، تبدأ المعالجات بالحكمة والموعظة الحسنة، وإظهار السلوك الذي ينم على الانتماء الإسلامي، وضرورة الابتعاد عن أساليب الإذلال والتجريح، وأهمية الحفاظ على كرامة هؤلاء الشباب وعزِّة نفوسهم؛ باعتبار أنهم ثروة لهذا لوطن، وذخر لمعاركه القادمة.

وليتذكر كل هؤلاء الأحباب من إخواننا في الأجهزة الأمنية بأن الدين المعاملة، وأن هؤلاء المعتقلين هم أمانة بين أيديهم، ونريدهم أن يعودوا وقد استقامت أمورهم، وطابت بالخير نفوسهم، وأن الغلو والتطرف كان صفحة من ماضيهم، طوتها التوبة والإنابة والرؤية الإسلامية الواعية.