فلنذهب بعيداً لنقترب أكثر: الكل يعرف ما هي ناطحة السحاب، ولكن القليل يعرف أن أبحاثاً تُجرى، في الوقت الحاضر، لبناء ناطحات سحاب مقلوبة، لا ترتفع من الأرض إلى السماء، بل تهبط من السماء إلى الأرض.
في الغلاف الجوي للأرض ملايين الكتل الصخرية الهائمة في الفضاء، وعدد ما يتجاوزه قطره المائة متر منها يصل إلى مائة وخمسين مليون كويكب.
الفكرة هي القبض على أحد الكويكبات، على ارتفاع خمسين ألف كيلومتر، مما تعدون، والتحّكم بمساره، لتحويله إلى قاعدة معلّقة لبناية هائلة الحجم تهبط من أعلى إلى أسفل.
إذا أدركنا أن المسافة بالطائرة بين نيويورك والقاهرة، مثلاً، تبلغ تسعة آلاف كيلومتر، فهذا يعني أن المسافة بين قاعدة البناية المذكورة والأرض تزيد خمس مرّات ونصف المرّة عنها بين المدينتين.
ستضم البناية، التي تحصل على الطاقة من الشمس، والماء من الغيوم، أماكن للعيش، ومسابح، ومكاتب، ومراكز تجارية، مع كل ما يتصل بأشياء كهذه من خدمات وترفيه، وطول النهار في أعلى طابق منها يزيد عنه في أسفل طابق بخمس وأربعين دقيقة.
لا بأس. وما مناسبة هذا الكلام؟
ثمة مناسبات كثيرة، ومنها أننا، في قرن وألفية جديدين، نعيش في زمن غامت فيه الفوارق التقليدية بين الواقع والخيال، وبين الممكن والمستحيل، إلى حد تجاوز جموح وطموح روّاد الخيال العلمي من أمثال الإنكليزي ويلز، والفرنسي فيرن. لذا، لا تبدو فكرة البناية المُعلّقة، في نظر ما لا يحصى من بني البشر، منافية للعقل والمنطق.
ومع ذلك، ثمة مناسبة أكثر محلية، وخصوصية، وشخصية تماماً، استدعاها تصريح أحد الناطقين باسم سلطة حماس الدينية في غزة، الذي تكلّم عن المانيكان في المحلاّت التجارية، هناك، بوصفها تخدش الحياء العام، وتتنافى مع القيم والأخلاق. وتصادف أن استوقفت كاتب هذه السطور عبارة في مقالة لروبرت فيسك، نشرها في الإندبندنت البريطانية يوم السبت الماضي، ودوّن فيها انطباعات عن زيارة لبلدة سورية تدعى دير حافر، تحررت مؤخراً، بعد ثلاث سنوات من احتلال الدواعش. وتصادف، أيضاً، أن خبر البناية المُعلّقة ورد في الأسبوع نفسه.
في زمن تدفق المعلومات والصور، لا تنجم ردود أفعالنا، في الدماغ، عن حدث بعينه، بالضرورة، ولا تستدعيها حادثة مفردة، بل تنجم عن مزيج لا نهائي من المشاهد والأخيلة والاستيهامات والأفكار والانطباعات المتراكمة، أحياناً، في يوم واحد.
لذا، كان من الصعب تفادي إنشاء علاقة، في الذهن، بين البناية المُعلّقة، وعبارة فيسك عن عالم داعش، (الذي تجلّت ملامحه في سجن البلدة، والميدان الرئيس، والمحكمة الشرعية، والمشفى الميداني، والمدرسة، ودائرة الزراعة، ومنصة الإعدام)، "عالم كانت رسالته الصلاة والموت"، وبين هذه وتلك والكلام عن خدش المانيكان، في غزة، للحياء العام، وتنافيها مع القيم والأخلاق.
بعض المُعلّقين في غزة، قال إن المذكور يرى المانيكان بعضو غير العين، وقال البعض الآخر إنه يهتم بالنوافل ويتجاهل الفقر، والدمار، واللصوصية، والبطالة، والظلم.
هذه ملاحظات صحيحة. بيد أن ثمة ما هو أبعد، فالمذكور لن يبدو وكأنه هبط من عالم آخر لو قدّر له العيش في بلدة دير حافر، في زمن حكم الدواعش، ولن يجد نفسه غريباً في عواصم وبلدات وقرى عربية من المحيط إلى الخليج، بل سيجد لغة مشتركة، وبيئة مألوفة.
يمكن التفكير، طبعاً، في حقيقة أن ذريعة الدفاع عن القيم والأخلاق استراتيجية ناجعة لتمويه، أو تبرير، الفقر، والدمار، واللصوصية، والبطالة، والظلم.
بيد أن ثمة ما يبرر الارتياب في دقة هذا القول. فالأرجح أن الفقر، والدمار، واللصوصية، والبطالة، والظلم، لا وجود لها أصلاً في منظومة معرفية لا تعترف بها، أو تعجز عن رؤيتها كجزء من القيم والأخلاق. فالعجز عن الرؤية أكثر تعقيداً وأبعد دلالة من مجرّد التجاهل.
وطالما أن العجز لا يتجلى كاستثناء بل يبدو سمة رئيسة لحالة أيديولوجية سائدة، لا تقتصر على مكان دون غيره، في العالم العربي، بل تتجلى في ملايين الشواهد اليومية، وأن هذا العجز ليس نظرياً في كل الأحوال، بل يجد ترجمة مباشرة في عاصفة دموية عاتية وغير مسبوقة، لا تهب على عالم العرب وحسب، بل وتعلن الحرب على العالم، أيضاً، فإن فيه ما يبرر العودة إلى البناية المُعلّقة.
فلنفترض أننا نريد التعامل مع البناية المُعلّقة، والمانيكان كمجازين لشيئين مختلفين. في الأوّل ما يترجم طموح وإرادة الإنسان في إعادة ترسيم الحدود التقليدية للزمان والمكان.
ولا يصعب العثور على دوافعه في فكرة فرويد عن إيروس، الدافع المُخيف للحب، والحياة، والحضارة. وفي الثاني ما يترجم ثاناتوس، ولا يصعب العثور عليه في تشخيص فرويد لدافع الموت.
غالباً ما يُختزل الإيروس في الجنس، سواء للمتعة أو التكاثر، بيد أن للمجاز تجليات أبعد من هذا بكثير.
فالثقافة فعل من أفعال الإيروس، فلنفكر في الموسيقى، والرسم، والنحت، والرقص، والمسرح، والأدب، والثياب التي يرتديها الناس، وحركة وحراك السوق، والفضاء العام، وأماكن الترفيه، وأنواع الطعام والشراب.
ولنتأمل المسكونين بالمعرفة والتجريب، وكسر الأليف والمألوف، الذين اخترعوا الطباعة، والأنسولين، والكومبيوتر، والديمقراطية، وحبوب منع الحمل، وقصيدة النثر، والوجودية، والمساواة، ويفكّرون الآن في البناية المُعلّقة.
ثمة بصمة للإيروس في هذا كله. أما الموت فنقيض هذا كله. الفرق بين حضارة تعتقل كويكباً في الفضاء، وحضارة تعتقل العقل، هو الفرق بين الحياة والموت. وبهذا نقترب أكثر من دلالة حرب على المانيكان في بلاد نُكبت بالفقر والهذيان.