دون أدنى شك قامت حركة «حماس» بخطوة مهمة جداً على المستوى السياسي والأيديولوجي بتبنيها برنامجاً سياسياً جديداً يتسم بدرجة كبيرة من المرونة، وعلى الرغم من ان تبني هذا البرنامج جاء متأخراً كثيراً، ولكن أن يأتي متأخراً أفضل من ألا يأتي.
والبرنامج الجديد الذي حملته الوثيقة السياسية لحركة «حماس»، التي جرى نشرها بصورة غير رسمية عبر تسريب مقصود ربما لفحص ردود الفعل محلياً وإقليمياً ودولياً عليها قبل نشرها رسمياً ولإتاحة المجال للمراجعة أو التعديل، يتضمن مجموعة التغييرات في موقف «حماس» من مجموعة من القضايا الجوهرية فيما يتعلق بنظرة «حماس» لحل الصراع الفلسطيني والعربي - الإسرائيلي والعلاقة مع اليهود وإسرائيل والعلاقة مع المحيط، بما في ذلك علاقاتها بحركة «الإخوان المسلمين» الدولية، باتجاه يتيح لها أن تكون أكثر قبولاً في الأطر المحلية والإقليمية والدولية.
ففي موضوع التسوية السياسية تعلن «حماس» أنها تقبل مبدأ إقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة منذ العام 1967 وعاصمتها القدس، باعتباره «صيغة توافقية وطنية مشتركة، ولا تعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، كما لا تعني التنازل عن أي من الحقوق الفلسطينية» ورغم ذلك يمكن فهم أن «حماس» تتبنى برنامج منظمة التحرير الفلسطينية وأنها أقرب إلى سنوات السبعينيات عندما تبنت المنظمة البرنامج المرحلي الذي أضحى برنامجاً لإنهاء الصراع.
وهذه اللغة مفهومة لتبرير الانتقال إلى الصيغة الجديدة التي يمكن رؤيتها كاعتراف غير مباشر بإسرائيل كأمر واقع.
و»حماس» في الواقع ليست مضطرة للاعتراف بإسرائيل لتسويق نفسها.
التغيير المهم الثاني وربما الأول من حيث الترتيب هو في التمييز بين الصهيونية واليهودية، فتنص الوثيقة على أن «حماس» «تفرق بين اليهود، كأهل كتاب، واليهودية كديانة من ناحية، وبين الاحتلال والمشروع الصهيوني، من جهة أخرى، وترى أن الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعاً مع اليهود بسبب ديانتهم وحماس لا تخوض صراعاً ضد اليهود لكونهم يهوداً، وإنما تخوض صراعاً ضد الإسرائيليين المحتلين المعتدين».
وهذا التفريق مهم في دحض الادعاءات الإسرائيلية بتطرف «حماس» و»معاداتها للسامية».
والتركيز على الاحتلال مهم في النظرة المستقبلية للتسوية السياسية، بمعنى إذا زال الاحتلال يزول العداء.
والنقطة المرتبطة بهذا البند أيضاً هي تأكيد «حماس» رفضها «اضطهاد أي إنسان أو الانتقاص من حقوقه على أساس قومي وديني أو طائفي».
وهنا «حماس» تقدم نفسها كحركة عصرية تؤمن بمبادئ حقوق الإنسان أو القسم الخاص بالعلاقة مع الآخر بطريقة ما.
وفيما يتعلق بطبيعة النظام السياسي تبدي الحركة انحيازها للخيار الديمقراطي وتقول في النص: «تؤمن حماس وتتمسك بإدارة علاقاتها الفلسطينية على قاعدة التعددية والخيار الديمقراطي والشراكة الوطنية وقبول الآخر واعتماد الحوار، بما يعزز وحدة الصف والعمل المشترك، من أجل تحقيق الأهداف الوطنية وتطلعات الشعب الفلسطيني».
وهذه صيغة متطورة بالقياس إلى ميثاق «حماس» ومواقفها السابقة. وينطبق على ذلك موقفها من منظمة التحرير التي ترى فيها «حماس» إطاراً وطنياً للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج يجب المحافظة عليه، مع ضرورة العمل على تطويرها وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية، تضمن مشاركة جميع مكونات وقوى الشعب الفلسطيني، وبما يحافظ على الحقوق الفلسطينية.
وحتى موضوع النساء تحدثت عنه «حماس» بصورة أكثر إيجابية للتمييز بينها وبين الحركات الأكثر تشدداً، حتى ولو لم تتبن مسألة المساواة في الحقوق أو الوثائق الدولية الخاصة بالمرأة وهذا عملياً يتناقض مع فكرها وأيديولوجيتها.
ولكن الإشارة هنا لاحترام دور المرأة كممر للقبول من هذا القطاع المهم ولتحسين الصورة دولياً.
والشيء المهم الآخر الذي تحاول «حماس» إظهاره في وثيقتها أو برنامجها الجديد هو أنها حركة فلسطينية لا توجد لها ارتباطات تنظيمية أو إدارية مع حركة «الإخوان المسلمين» الدولية، وأنها لا تتدخل في شؤون الغير من دول وجهات مختلفة، وهذا ربما لتجنيبها مشكلات مع الإقليم وخاصة مع مصر وأيضاً لتفادي وضع تصبح فيه حركة «الإخوان» على قائمة الإرهاب كما يشاع في الولايات المتحدة الأميركية التي قد تذهب لخطوة من هذا القبيل تقدم عليها إدارة الرئيس دونالد ترامب، خصوصاً بعد الزيارة الناجحة التي قام بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لواشنطن وإعادة صياغة العلاقة والتحالف مع الولايات المتحدة على قاعدة محاربة الإرهاب وزيادة الدعم العسكري والأمني لمصر.
من الناحية النظرية اقتربت «حماس» جداً من برنامج منظمة التحرير وأزالت الكثير من العوائق البرنامجية التي تمنع الاتفاق السياسي الذي يشكل أرضية لابد منها لتحقيق المصالحة الوطنية.
وبالتالي يمكن لـ»حماس» أن تذهب فوراً باتجاه الاتفاق مع فصائل منظمة التحرير على برنامج المصالحة.
ولكن قد يكون تبني هذا البرنامج خطوة بالاتجاه المعاكس، أي تريد منها حركة «حماس» القبول والاعتراف الدوليين للتفاوض معها على إبقاء سلطتها في غزة باعتبارها حركة برغماتية يمكن الاتفاق معها، والمرونة في هذا السياق تذكرة مرور للانفصال النهائي عن السلطة وعن الضفة المحتلة.
وما يعزز مثل هذا الاحتمال هو إقدام حركة «حماس» على تشكيل لجنة لإدارة غزة تضم الوزارات العشر الأهم. والآن على «حماس» واجب الإثبات بأي اتجاه تسير.