لماذا انتهت الحرب؟

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة

 


يوم 9 تشرين الأول، وقد مضى على حرب الإبادة حولان كاملان، أُعلن عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وانتهاء الحرب.. الآن الأمور تقريبا واضحة؛ فالجميع يسمع ويشاهد، مع اختلاف وجهات النظر حول كل ما يتعلق بالحرب.. لكن بعد أيام وفي المستقبل القريب والبعيد لن يتذكر أغلبنا لماذا توقفت الحرب، مثلما نسي الكثيرون لماذا اندلعت أصلا!.
البعض سيعيد السبب إلى صمود المقاومة، وآخرون سيعيدون الفضل لقطر، أو لتركيا، أو لمصر، أو لترامب، أو لأي سبب آخر.. وفي الحقيقة، اندلاع الحرب وتوقفها مثل أي ظاهرة كونية، لا يعودان لسبب واحد، بل لتوفر عدة أسباب ونضوج عدة عوامل ونتيجة تغير الظروف الموضوعية والذاتية.. وهذه جميعها عادة تكون متداخلة ومتشابكة.
لذا، للتوثيق وللتاريخ، سأعدد أهم العوامل والأسباب التي أدت إلى وضع نهاية لهذه الحرب.. وقبل ذلك لنتفق على مسألتين، الأولى: حكومة نتنياهو ظلت مصرة حتى آخر ساعة على عدم وقف الحرب، وعملت بكل الأساليب على إطالتها لأسباب سياسية وأيديولوجية تتعلق بمطامع وغايات اليمين الصهيوني الذي كان يريد للحرب أن تستمر حتى يحقق أهدافه الحقيقية: التهجير، والضم، وتصفية القضية الفلسطينية، ولأسباب شخصية تتعلق بخشية نتنياهو من إقصائه ومحاكمته.
الثانية: الولايات المتحدة شريكة ومقررة في الحرب بدءا من إعلانها، مرورا بمباركتها ودعمها وتوفير أسباب إدامتها وقطف ثمارها السياسية، وانتهاء بإيقافها.. لكنَّ أولويات واشنطن ليست هي نفسها أولويات تل أبيب.
فيما يتعلق بعوامل انتهاء الحرب:
1. بعد سنتين من التوحش، إضافة للخسائر البشرية المهولة، دمرت إسرائيل نحو 80% من القطاع، وحولته إلى بيئة طاردة، وتمكنت من تدمير معظم القدرات العسكرية لـ»حماس»، ولـ»حزب الله»، واغتالت أغلب قيادات الصف الأول وحتى الثالث للحركتين، واحتلت أجزاء من الجنوب اللبناني ومعظم قطاع غزة، وقصفت المنشآت النووية الإيرانية، وساهمت في إسقاط نظام الأسد وتدمير مقدرات الجيش السوري، وأنهت «محور المقاومة»، وقصفت سبع دول في الإقليم، وفرضت معادلات جديدة قائمة على التفوق والغطرسة الإسرائيلية، وحصلت على اتفاقيات تحقق بقدر كبير ما أعلنته عن أهدافها من الحرب، وأهمها إقصاء «حماس» عن حكم غزة، واستعادة الرهائن، وبالتالي يمكن القول، إن الحرب استنزفت ذاتها، ولم يعد هناك ما يمكن تحقيقه، خاصة بعدما تبين عجزها عن تنفيذ مخططات التهجير والضم وإنهاء الكيانية الفلسطينية.
2. تصاعد التظاهرات الاحتجاجية في أغلب مدن العالم منددة بالوحشية الإسرائيلية، وبسياسة التجويع واستهداف المدنيين، ما يعني انكشاف حقيقة إسرائيل، وخسارتها صورتها التي طالما حرصت على إظهارها، وخسارة الرأي العام العالمي. وهذه التظاهرات ضغطت على الحكومات لاتخاذ موقف جدي تجاه إنهاء الحرب.
3. بعد قصف قطر، بدأت دول السلام الإبراهيمي تعيد النظر في حساباتها، وأنها ليست في مأمن من هجمات مماثلة، وبالتالي صار المشروع الإبراهيمي برمته موضع تساؤل.. خاصة مع تصاعد عدوان إسرائيل وتجرئها على قصف سبع دول في الإقليم، ما يعني ظهورها كقوة إقليمية مهيمنة متغطرسة، بلا ضوابط، وهذا التمادي لا يحتمله الإقليم ولا العالم، بدليل تشكّل تحالفات عسكرية وأمنية جديدة خارج نطاق الحماية الأميركية (تحالف السعودية مع باكستان، ومصر مع تركيا وغيرها)، ما حتّم على المجتمع الدولي لجم هذه القوة المنفلتة من كل عقال.
4. كان من تجليات ذلك دعوة السعودية وفرنسا لمؤتمر حل الدولتين، وبلورة تحالف عالمي يدعو لإيجاد حل حقيقي للصراع، نجم عنه موجة اعترافات جديدة بدولة فلسطين، منها دول وازنة وحليفة لأميركا، وبدء محاولات عزل إسرائيل، وفرض عقوبات عليها ومحاكمتها (لأول مرة)، وهو ما أثار قلق الإدارة الأميركية، وما زاد من قلقها مغادرة أغلب الوفود لقاعة الجمعية العامة لمقاطعة كلمة نتنياهو، ما أكد مخاوفها من تزايد حجم وفعالية العزلة المفروضة على إسرائيل.
وهنا تجدر الإشارة إلى جدية السعودية في مسعاها لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية لأسباب قومية ومبدئية، وسياسية تخدم طموحها في تَبَوُّؤ صدارة الإقليم، واقتصادية تخدم مصالحها وتوجهاتها بعيدة الأمد.. أما فرنسا فأرادت بلورة موقف أوروبي متماسك في وجه التفرد الأميركي، والمدخل: قضية فلسطين.
5. رغبة ترامب الجادة في إنهاء الحرب وضغطه على نتنياهو، وربما كان هذا العامل الحاسم، ولهذا الموقف أيضا سببان، الأول: سياسي، تمثّل في خشية أميركا على إسرائيل من اليمين الصهيوني ومن سياساته المتهورة التي تعمق عزلتها، ومحاولة إنقاذها من نفسها. والثاني: شخصي، له علاقة بنرجسية ترامب، ورغبته بنيل جائزة نوبل للسلام، أو تحقيق إنجاز تاريخي.
6. هذه العوامل بدأت تتبلور منذ بدايات العدوان، لكنها تعاظمت في الآونة الأخيرة، وبدأت أميركا تطرح مبادرات، لكن الموقف المتصلب لإسرائيل (وبدرجة أقل «حماس») كان يؤدي إلى فشل المبادرات، ومع انتقال مركز المفاوضات إلى مصر وتراجع الدور القطري في الوساطة خلال الجولة الأخيرة، وانخراط تركيا بقوة، ما سمح هذه المرة بالوصول إلى اتفاق وقف الحرب، بعد أكثر من سنة من مفاوضات عبثية كانت تتحكم فيها قطر وإيران، وتمليان على «حماس» عدم التجاوب بحدية مع المقترحات المطروحة.
7. في الجولة الأخيرة، دخلت مصر بقوة لأنها جادة في إنهاء الحرب ووقف تهديد التهجير، وغيرت قطر موقفها بعد إبرام تحالف دفاعي مع أميركا، وضغطت تركيا على «حماس» لإنجاح صفقة طائرات حربية متطورة ستحصل عليها من أميركا، أما إيران فكانت مغيبة. ومع ضغوطات الدول الثماني على «حماس» (التي اجتمع ترامب مع رؤسائها، ومنها دول متعاطفة مع «حماس») لم يعد أمام الحركة خيار سوى القبول بالخطة، مع أنها فعليا بذلك تكون قد وقعت بنفسها على قرار شطبها.
8. ثمة عوامل إسرائيلية ذاتية، تمثلت في محاولة إسرائيل الخروج من عزلتها، وإنقاذ ما تبقى من سمعتها وروايتها، خاصة بعد أن سحبت منها «حماس» ذريعة الرهائن، ولم يعد لنتنياهو مساحة للمناورة والتفلت من ضغوطات ترامب، إضافة إلى تصاعد ضغوطات أهالي الرهائن، وتفاقم الخسائر الاقتصادية التي تجاوزت الستين مليار دولار.
أهم من كل ما سبق أن الحرب انتهت، وثمة نافذة أمل فُتحت لشعبنا، ولعل أهلنا في القطاع يلتقطون أنفاسهم بعد هذه المقتلة.