فعلهم هنا، وفعلنا، وفي البدء كان الفعل.
هناك أديب، وهناك فاعل باليدين، وهناك وهناك حسن مصطفى الفلسطيني الذي جمع بين الكلام والعمل التنموي الإبداعي. وهناك آخرون نجلهم ونحترمهم.
عقد من الإبداع الإنساني استمر لعدة عقود وما زال يلهمنا بالمزيد.
كان ذلك قبل عدة عقود، بعد النكبة الأولى، حين لمعت الفكرة في رأس الثلاثيني الأستاذ حسن من بتير غرب بيت لحم؛ فالناس هنا يحيون بالخبز والكلمات. ومن بتير بدأ، ليتم استلهام الفكرة فلسطينيا وعربيا.
تجلى البقاء إذن دائما في الفعل الزراعي والاقتصادي الشامل، الذي واكبته مواويل الحصادين/ات والغناء والموسيقى والرسم والأدب. وهو وإن كان لدى الشعوب أمرا عاديا، فإنه بالنسبة لشعب تحت الاحتلال يصبح هدفا.
لقد تمازج الأدب الإنساني بالأرض، فحضرت الأرض-المكان كبطل بحد ذاته، فلا إنسان بدون أرض، ولا أرض بدون رعايتها ومحبتها، وارتقى معنى الأرض وطنيا مع ظهور الاستعمار الكولينيالي. ولعل البقاء عليها كان أكبر تحد واجهته الشعوب.
فلسطينيا، يمكننا بحث الأمر لغويا وأدبيا، كأن نرصد في الشعر والأدب عموما تجليات مضمون البقاء والصمود؛ خصوصا لدى المبدعين/ات في فلسطين عام 1948، وهم الذين انطلق منهم يوم الأرض المجيد، ليس فقط عام 1976، بل منذ اليوم الأول للنكبة.
ولعل البحث الأدبي يقودنا لاستخلاصات تنموية ووطنية تخص الباقين هناك وهنا، تكون طرقا للاستهداء بها، كون الشعراء إنما عبروا عن رحلة شعبهم الصادقة فعلا.
أهم هذه العبر هو أن فلسطينيي عام 1948 استطاعوا البقاء بدون كيان سياسي، فقد كانوا هم الكيان والحقيقة والوجود الفعلي بل والأمر الواقع.
لعل هذا ما قصده توفيق زياد:
"هنا .. على صدوركم , باقون كالجدار
وفي حلوقكم
كقطعة الزجاج , كالصبار
وفي عيونكم
زوبعة من نار"
وهو الوجود الحيّ والمعنوي:
"إنا هنا باقون
فلتشربوا البحرا
نحرس ظل التين والزيتون
ونزرع الأفكار , كالخمير في العجين".
ما أشبه الأمس باليوم، فنحن اليوم أشد حاجة لهذه الفلسفة الإنسانية العميقة والعملية؛ فنحن بحاجة لمن يقوينا بالغناء والفكر، ومن يكون قدوة لنا في الارتباط الإبداعي بالأرض.
اليوم وغدا، سنعيد اكتشاف الأديب والتربوي والتنموي معا، الذي حضرت فيه معاني البقاء في الظروف الاستثنائية، في ظل الطوارئ والحروب والنزاعات والصراع على الأرض.
لقد لفت المرحوم حسن مصطفى انتباه كثيرين ساسة واقتصاديين وإعلاميين، فكتبوا عنه في حياته وبعدها، ومن أكثر من زاوية، لما جمع في شخصيته القول والفعل.
واليوم نجد أنفسنا ونحن نتأمل حالنا، بأننا ما زلنا بحاجة لتعميم هذا النموذج العملي الواعي، العملي والاستراتيجي.
في النظرية التنموية يتم التأكيد على الاستدامة، وهذا فهمه الراحل حسن مصطفى مستلهما من حكمة شعوب الأرض الأمل بالإنجاز حتى في ظل الظروف الصعبة.
هو الفعل العقلاني والعملي، بتقوية وجود الإنسان على الأرض، معنويا وماديا، ثقافيا واقتصاديا، والتأكيد على التعليم كوسيلة وغاية جعل البقاء واعيا.
تلك الفلسفة لو أحسنا التفكير بها ربما لكان إنجازنا أكثر عمقا وأبعد أثرا؛ فالأرض وفلسفة البقاء عليها مرتبطتان معا.
ارتبط البقاء كلاسيكيا "بالصراع بين كائنات النوع الواحد للحصول على القوت والغذاء من أجل البقاء، والوجود وتكون فيه الغَلَبة للأفضل"؛ حيث تم ربط البقاء بالصراع، وقد ظل هذا المعنى طويلا. لذلك كان لبقائنا معنى عميق كونه تم وما زال يتم في ظل الاستعمار.
وقد حرص الاحتلال على تقوية نفسه لضمان الغلبة، من خلال جعل الأفضلية المسلحة سببا للبقاء الواهم؛ فمنطق القوة لن يكون قادرا على البقاء طويلا.
لقد تم استلهام تجربة الكاتب والتربوي والتنموي حسن مصطفى في الخمسينيات، وهناك من بنى عليها، وبالرغم أن تجربته متقاطعة مع عيش شعبنا في كافة أماكن تواجده خصوصا في فلسطين، إلا أننا بحاجة اليوم لتعميق الفكر في تلك التجربة، وربطها بتجربة شخصية فلسطينية أخرى لفتت الانتباه، وهي شخصية د. سلام فيّاض رئيس الوزراء السابق، والذي راح يعمم ويعمق فلسفة البقاء على الأرض في ظل ما نشهده من تحديات، خصوصا في المنطقة المسماة "ج".
أقل من عقد، ست سنوات من الإدارة الحكومية استطعنا فيها البقاء أكثر، وسنبقى بأنفسنا وبكل يدّ تمتد إلينا في أرضنا المهددة من الاحتلال بأشجارها وطيورها..
من الأستاذ حسن مصطفى إلى دكتور فياض، وما بينهما، وما بعدهما وما قبلهما، تشكلت رحلة شعبنا صاحبة الإرادة بالبقاء، من خلال الفعل على الأرض، بدءا بفعل الزراعة وانتهاء بالفعل الثقافي والوطني، حيث كانت فترة العمل الوطني في السبعينيات مؤسسة للبقاء من خلال الانطلاق بالخلاص الشعبي لا خلاص الأفراد.
إن ما تقوم به الحكومة اليوم من دعم لمناطق جيم إنما يأتي في هذا السياق، وينبغي مضاعفته لأنه هو من يكسر أية مخططات ضم مستقبلية.
في فلسطين عام 1948، ومن شعبها تعلمنا وما زلنا، ومن أية تجارب فلسطينية وعالمية سنواصل التعلم والتعليم على البقاء، فنحن الكيان، ونحن الوطن، ولا ينبغي الاقتتال على أي شيء يشتتنا عن تحقيق هدفنا بأن نبقى ونطور فعل البقاء مبدعين/ات فيه حتى:
"نحرس ظل التين والزيتون
ونزرع الأفكار , كالخمير في العجين".
بين يديّ 3 كتب أهدتني إياها ابنته الأستاذة نادية مصطفى أشرفت عليها مع مجموعة كتاب، وهي: المجموعة الكاملة لمؤلفات المرحوم حسن مصطفى البتيري-الفلسطيني-العربي، و"ذكرى حسن مصطفى" الذي يحوي ما كتب عنه من شهادات ومقالات ورثاء، و"المشهد الثقافي التنموي في ذاكرة العالم والعرب وفلسطين وأهالي بتير". وهي تشكل في نظر المطلعين/ات على هذا الجهد التوثيقي مادة غنية يمكن البحث فيها، خصوصا في مسألة البقاء، وربط الأدب والفكر بالإنسان والأرض بعقلانية، ورؤية استراتيجية بعيدة المدى بعيدا عن الانفعال.
هو وفاء ابنة لأبيها، وللوطن والبحث العلمي أيضا.
ومعرف أنه تم استشارة الراحل مصطفى من قبل الجامعة العربية حول رؤيته التنموية قبل 6 عقود، مما يزيد من أملنا اليوم بالبقاء، والإبداع فيه.
وفي البدء كان الفعل..
وقد قيل "كلامنا لفظ مفيد كاستقم، اسم وفعل ثم حرف الكلم".
Ytahseen2001@yahoo.com