من حيث المبدأ يمكن لأي حكومة أن تقتطع قدراً معيناً من رواتب العاملين في قطاعها شريطة أن يكون لديها مسوّغات قانونية، كافية وأسباب مالية تملي عليها اللجوء إلى هذا الإجراء.
الاقتطاع إما أن يكون ديناً على الحكومة، وإما أن يكون لأجل معين ومحدد في قرارها، ولكن وفي مطلق الأحوال فإن أي اقتطاع يجب أن يشمل كل الموظفين من كل الفئات وليس جزءاً منهم.
أما أن يكون هذا الاقتطاع دون مسوّغات قانونية ويطال موظفين دون غيرهم وليس لفئاتهم وإنما "لجغرافية" هؤلاء ودون إعطاء أي مسوّغات قانونية فإن الاقتطاع في هذه الحالة هو أقرب إلى الفضيحة السياسية.
لماذا؟
تعتقد الحكومة أن موظفي قطاع غزة يحصلون على "علاوات" غير مستحقة بسبب تعطلهم عن ممارسة أعمالهم بصورة عادية أسوة ببقية الموظفين العاملين على ملاك الحكومة، كما تعتقد الحكومة أن كل ما يتعلق بعلاوات طبيعة العمل وعلاوات أخرى لا تنطبق على هؤلاء المعطلين، ولهذا بادرت إلى هذا الاقتطاع. هذا على الأغلب ما دار في "ذهن" الحكومة عندما أقدمت على هذا الاقتطاع.
الافتقاد إلى الحساسية في قراءة الوضع واللحظة هو ما يميز هذه القرارات.
والافتقاد إلى تقدير النتائج التي يمكن أن تترتب على قرارات من هذا النوع في مثل هذا الوضع وفي مثل هذه اللحظة هو جوهر هذه الفضيحة.
وإذا أردنا أن نكشف عن الأمر فنحن لا نحتاج إلى أكثر من قراءة البيان الحكومي حول الاقتطاعات.
إذ ترى الحكومة أن الانقسام وسلوك حكومة "حماس" وتمردها وسطوها على الضرائب إضافة إلى انخفاض الدعم الخارجي هو الذي "أجبر" الحكومة على اتخاذ هذه "الخطوة".
هذه الأسباب من حيث المبدأ ليس لها أي علاقة بأي مسوّغ قانوني من أي نوع كان، وإذا كانت الأجندة الوطنية قد أجازت مثل هذه الخطوة، فلماذا لا تكون خطوة تشمل الجميع؟ هذا أولاً.
أما ثانياً: غالبية الموظفين تم تعطيلهم بقرار رسمي وهم في غالبيتهم موالون للشرعية، بل ويمكن القول: إنهم جزء أصيل من الحالة الفتحاوية في القطاع، فما علاقة هؤلاء بسلوك حركة "حماس" وسرقتها للضرائب وتمردها على المحكمة الدستورية؟
وثالثاً: هل لاحظت الحكومة اهتزاز شعرة واحدة من "حماس" وأهلها من قرار الحكومة، أم أن الكادر الفتحاوي أساساً هو الذي "انتفض" ضد هذه القرارات؟
وأما رابعاً: فإن حكومتنا ليست على أي استعداد من أي نوع كان لمشاورة أحد أو بحث خطوة من هذا النوع مع أي جهة قبل الإقدام عليها.
أما كان باستطاعة الحكومة التشاور مع الكتل النيابية على سبيل المثال لا الحصر؟
ألم يكن أمر بهذا القدر له من الحساسية يتطلب الاستماع إلى رأي الخبراء في هذا المجال بما في ذلك الخبراء الذين يرصدون المزاج السياسي والاجتماعي العام؟
ألم تكن اللجنة المركزية لحركة "فتح" معنية بهذا القرار الذي يطال كادرها في القطاع؟ ثم أليست هذه اللجنة بالذات على علم ومعرفة تامة بالحالة التي تسود في القطاع على كل الصعد والمستويات؟
اللجنة المركزية جهة عليا وهي جزء أصيل من النظام السياسي والحالة السياسية، فكيف للحكومة أن تقدم على قرار من هذا النوع دون التشاور معها وأخذ رأيها استشارياً على الأقل
أم أن الحكومة لم تعد تكترث بأحد في هذه البلاد، وأصبحت تعتبر نفسها صاحبة الولاية والدراية والخبرة وحسن التصرف والتفكير والتدبير؟
الحقيقة، إن الظلم الذي ألحقته هذه الحكومة بموظفيها في القطاع ينمُّ عن استهتار فاضح وخفة محزنة تجاه أهلنا في غزة وأخواتنا وإخواننا الموظفين على وجه التحديد.
تبدو المسألة محصورة في افتقاد هذه الحكومة لحساسيات الواقع الانقسامي في البلاد، لكنها في الحقيقة هي حالة عقم عميقة. فبغض النظر عن درجة أحقية شعور أهلنا في القطاع كونهم يدفعون ثمن الانقسام مرتين من ذوي القربى ومرة كبيرة من الحصار الإسرائيلي فإن الشعور العام لديهم هو أنهم الضحية الأولى للانقسام، وأن الأكثرية الحقيقية في القطاع هي أكثرية الفقر والبطالة والظلم والشعور بالمهانة والغبن.
وعندما تأتي الحكومة على مثل هذه القرارات في ظل هذا الواقع وفي ظل هذه المشاعر لدى أهلنا في القطاع فإن الحكومة تكون قد أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك بأنها (أي الحكومة) غائبة عن الوعي السياسي، وتسبح في بحر أرقامها المالية الجوفاء بعيداً عن بؤس الناس وشقائهم، وبعيداً عن أي حكمة سياسية.
كاتب هذه المقالة ليس فتحاوياً، ولكنني مستعد للدفاع عن هذه الحركة حتى النهاية، لأنها ما زالت وستبقى دائماً رافعة المشروع الوطني وحاملة رايته وحامية الوطنية الفلسطينية في وجه أعداء هذه الوطنية وأعداء الشعب الفلسطيني، وأرى أن هذه الحكومة تلحق أشد الأضرار بهذه الحركة وكادرها. هذه الحكومة تهدي حركة "حماس" من خلال هذه الخطوة أغلى هدية كانت تبحث عنها.
فماذا تريد حركة "حماس" أفضل من أن ينتفض كادر "فتح" ضد الحكومة المناوئة "لحكومة" الأمر الواقع التي تتحكم بأهلنا في القطاع وتحولهم إلى مجرد رهائن في سجن كبير بحياة بائسة تغيب عنها شروط البقاء الإنساني.
كفى لعباً وتلاعباً في الساحة الوطنية، وكفى استهتاراً بالناس ولقمة عيشها وقوت أولادها وكفى تغولاً على فقراء هذا الشعب ممن دفعوا ضريبة البقاء في هذا الوطن والصمود على أرضه والدفاع عنه.
كفانا كل هذا الارتجال، وكل هذه الخفة لأن الثمن أصبح باهظاً والقدرة على التحمل باتت في أضيق الحدود.
الناس لم تعد مستعدة لدفع فواتير سياسية واقتصادية واجتماعية لأن حكومتها لا تدرك خطورة ما تقدم عليه، وتتخبط دون رادع ولا مانع.
وحتى لا يكون المانع والرادع هو ردة فعل الموظفين فقط، فقد بات مطلوباً من أعلى المستويات السياسية التدخل الفوري لوقف هذه المهزلة خصوصاً، وأن كل المدافعين عن حقوق هؤلاء من قوى سياسية واجتماعية ووطنية لم يختلفوا أبداً على إدانة واستنكار ما أقدمت عليه الحكومة، وهم جميعاً يعوّلون على الشرعية، وعلى سيادة الرئيس تحديداً في وضع حد نهائي لهذا النهج. ذلك أن الأمر يتعلق بخطيئة وليس بمجرد خطأ.
بعد عام على (طوفان الأقصى) فلسطين والمنطقة إلى أين؟
07 أكتوبر 2024