السباحة في بحر إسرائيلي.. لا عزاء للعرب والفلسطينيين

التقاط.PNG
حجم الخط

 

< دعونا نتحدث بهدوء وصراحة عما يدور حولنا وما يجري لنا وبنا، بصفتنا عرباً، وعلاقة هذا بذاك. هل يستحق العرب ما يجري لهم من أهوال وكوارث؟ وهل هي من صنعهم أم مفروضة عليهم؟ ولماذا أصبح العرب أمة تقاسي الويلات وتنتحب على ماضيها وتخشى من مستقبلها؟

لا يوجد أدنى شك في أن ما يجري الآن في عالم العرب وللشعوب العربية مرتبط - بشكل يكاد يكون كاملاً - بوجود إسرائيل وخططها العدوانية التوسعية والمستقبلية. ولكن، وعلى رغم هذه الحقيقة «المرة»، فإن معظم العرب يميلون بشكل فِطري إلى لوم الآخرين أو الظروف المحيطة بهم أو الأفعال والقرارات الصادرة عن جهات أو دول أجنبية، لتبرير سقوطهم أو فشلهم، وكأنهم بذلك ينشدون الخلاص من الشعور بالذنب أو تعذيب الضمير أو لوم الآخرين لهم، علماً بأن هذا الأسلوب يعكس سلبية متناهية موغلة في أعماق النفس العربية، ولا تعكس أي استعداد أو حتى رغبة في التغيير نحو الأفضل. فخلق الأعذار لتبرير السقوط أو الاستسلام للأمر الواقع هو ما يميّز العرب الآن من المحيط إلى الخليج، والانصياع لأمر الحاكم بل وتبرير أخطائه هو سُنة العرب، ما عدا استثناءات قليلة جاءت خلال حقبة الربيع العربي، لاسيما في تونس ومصر، إضافة إلى رفض الفلسطينيين للانصياع للاحتلال، مع أنهم فشلوا في فعل الشيء نفسه لقيادتهم الفلسطينية المارقة.

الانهيار العربي الحالي لم يأتِ فجأة أو نتيجة لتطورات داخلية وخارجية باغتت العرب وفاجأتهم بما هم فيه، الانهيار جاء نتيجة عقود من العبث بعقول الأجيال الجديدة وبمناهج التربية والتعليم في العالم العربي، إضافة إلى عقود من الاستسلام الشعبي والانصياع للقهر السياسي وعبادة الفرد للقائد حد التضحية بالنفس والوطن والاستسلام الطوعي لذلك الحاكم، انطلاقاً من مبدأ «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم»، وكأنه لا يوجد في الإسلام شيء آخر سوى طاعة أولي الأمر في باطلهم، وهو كثير وفي صوابهم وهو قليل. إن هذه الانتقائية لم تجيء صدفة، ولكنها تعكس انصياع طبقة رجال الدين لما يريده الحاكم، ومحاولة جعل تلك الطاعة جزءاً من الطاعة الربانية تماماً، كما استعمل ملوك أوروبا في العصور الوسطى اصطلاح «الحق الإلهي» (Divine Right) لتبرير وجوب الطاعة العمياء للملك، حتى ولو كان ذلك في الباطل.

أسهم الضعف والتهاون العربي في إضعاف قدرة العرب وبشكل متفاقم على الدفاع عن أنفسهم وعن قضاياهم، والانفصام في العلاقة بين الحاكم والمحكوم أسهم إما في اعتماد الحاكم الفاسد المستبد بشكل متزايد على القوى الخارجية نتيجة لعدم ثقته بشعبه، أو لعدم رغبة الشعب في الدفاع عن ذلك الحاكم، حتى ولو أدى ذلك إلى انهيار الدولة، معادلة صعبة ومؤلمة ولكنها حقيقية.

فلسطين ليست ببعيدة عن المسار العربي العام، فهي تؤثر فيه وتتأثر به، والأمر سيان عندما تكون الأمور جيدة وفي صعود وتقدم، أما عندما تكون الأمور في تراجع وهبوط فإن العلاقة تصبح سلبية والسوء ينتقل من هذا الطرف إلى ذاك، وعندها فإننا نتحدث عن علاقة «سرطانية» مسارها مُؤلم ومليء بالأوجاع، وعلاجها يكون أشد إيلاماً وفتكاً، ونهايتها تكون مميتة.

إن البحث عن مخرج بهدف إيجاد حل للقضية الفلسطينية لا يعني ولا يجب أن يعني أن على ذلك المَخْرَج أن يكون إسرائيلياً، ولكن الواقع ينبئنا بخلاف ذلك، فإسرائيل تريد حلاً إسرائيلياً للقضية الفلسطينية يكون على حساب الفلسطينيين والعرب، والقيادة الحالية للفلسطينيين واقعة تحت حماية سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وهي بذلك تشكل جزءاً عضوياً منه. وبلغ العرب من الضعف والتشتت مرحلة أصبح بها حكامهم ينظرون إلى إسرائيل باعتبارها الحليف المنتظر بالنسبة لبعضهم في صراعهم مع إيران، والوسيط الوحيد لدى أميركا بالنسبة للبعض الآخر في سعيهم للحصول على رضا أميركا ومساعداتها، وحائط المبكى بالنسبة للعرب الآخرين لتبرير فشلهم في تحرير فلسطين من خلال تأييد الادعاء الباطل الوقح بأن فلسطين هي للإسرائيليين!

وهكذا، فإن الوضع العربي الراهن الضعيف والمهلهل والممزق جعل من عملية تسهيل مرور الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية مهمة عربية ومن مسؤولية بعض الأنظمة العربية، بغض النظر عن موقف شعوبها، ومن دون أي اعتبار لهم، انطلاقاً من قناعة تلك الأنظمة بأن ما هو في مصلحة النظام وضمن رؤيته هو بالضرورة في مصلحة الوطن، حتى ولو كان واقع الحال عكس ذلك. وفشل الفلسطينيون في وضع حد لشطط قياداتهم يعادل فشل العرب، وأسهم ذلك إضافة إلى حال الضعف والاقتتال العربي، في توفير الأرضية الصالحة للتقدم بأفكار سوداء جامحة باتجاه تسوية ما.

الحديث الدائر الآن في العلن حيناً وبالهمس أحياناً يتمحور حول أفكار إسرائيلية يتم تسويقها من بعض العرب بهدف الضغط على الفلسطينيين للقبول بها، والمطروح الآن هي أفكار إسرائيلية ستؤدي إلى إغلاق ملف القضية الفلسطينية إلى الأبد عوضاً عن حلها. وفي حين أن استعمال كلمة الحل في الحال الفلسطينية يعني تنازلات متبادلة، فإن الإغلاق يعني فرض إرادة القوي على الضعيف، وهو ما يجري العمل عليه الآن.

الأفكار المطروحة للتداول تعطي مؤشراً على الغياب الكامل لمفهوم التحرير ومفهوم الانسحاب الإسرائيلي ومفهوم الحقوق الإنسانية والوطنية للفلسطينيين، وكذلك مفهوم الدولة الفلسطينية ذات السيادة الكاملة على الأرض والشعب، وفي غياب كل هذه المفاهيم الأساسية، يصبح ما هو مطروح حقيقة ينحصر في بقاء الاحتلال، ولكن تحت مسميات مختلفة تُضفي على ذلك الاحتلال الديمومة والشرعية الفلسطينية والعربية، ومن ثم الدولية، وتعطي الانطباع الخاطئ بأن هنالك انسحاباً وسلاماً وحلاً للقضية الفلسطينية.

المتداول همساً يشير إلى أهمية ما دار في اجتماع العقبة الثلاثي بين الأردن ومصر وإسرائيل، وإلى الدور المحوري الذي ستلعبه إدارة ترامب في ترجمة الأفكار الإسرائيلية المطروحة الآن إلى سياسات مؤطرة عربياً وإقليمياً ودولياً، واستدعاء محمود عباس إلى واشنطن لا يعني مشاورات بقدر ما يعني إصدار أوامر وتعليمات له ولسلطته تؤشر إلى تسارع الخُطى في اتجاه إنضاج الأفكار الإسرائيلية للتسوية، والهادفة إلى إغلاق الملف الفلسطيني، وترجمتها إلى سياسات وبرنامج عمل يشمل جميع الأطراف، بما في ذلك الفلسطينيون وبرعاية أميركية ومباركة عربية!

إن التسارع الواضح في جهود الاستيطان وتهويد القوانين يشير إلى طبيعة الأفكار الإسرائيلية لإيجاد تسوية ما للقضية الفلسطينية، تستثني عملياً أي انسحاب من الأراضي الفلسطينية باستثناء ما تبقى من أراضي قطاع غزة الذي نجحت القيادات الفلسطينية، قبل إسرائيل، في فصله عن بقية الأراضي الفلسطينية، وبالتالي سهّلت مهمة الاحتلال في حصر حل الدولتين في قطاع غزة وفصله وسكانه تماماً عن الأرض الفلسطينية التاريخية.

إن الحديث عن حل الدولتين كان دائماً في صلب الأفكار المطروحة فلسطينياً وعربياً ودولياً، بغض النظر عن الموقف منه، وعلى رغم أنه يهدف حقيقة إلى طمس الحقوق الفلسطينية، خصوصاً وأن ترجمة الجزء المتعلق بالفلسطينيين تم حصره في إنشاء دويلة فلسطينية في قطاع غزة، أو ما تبقى منه، واعتبار ذلك هو نهاية المطاف بالنسبة لمطلب الدولة الفلسطينية. وهذا سيؤدي إلى إتمام عزل قطاع غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة من خلال سور إسرائيلي عازل بشكل كامل.

ما هو مطروح إسرائيليا إذاً هو التخلص من الخطر الديموغرافي الفلسطيني من خلال فصل سكان القطاع مع أقل مساحة ممكنة من الأرض عن الكيان الإسرائيلي والتخلص من المسؤولية القانونية التي يفرضها القانون الدولي على أي دولة احتلال.

وفي سياق هذا الحل والأفكار المطروحة، يبدو أن مصر، وعن حق، غير راغبة ولأسباب مختلفة في قبول المقترح الإسرائيلي بإعطاء قطاع غزة عمقاً جغرافياً من خلال ضم أجزاء من صحراء سيناء إلى دويلة قطاع غزة، كما أنها قد لا تكون راغبة أيضاً في بقاء حدودها مع فلسطين هي المنفذ الوحيد لدويلة قطاع غزة على العالم الخارجي الأمر الذي سيضعها تحت مسؤولية أدبية وأخلاقية وضغوط فلسطينية وعربية هائلة ويحرج علاقاتها مع إسرائيل ويضيف عبئاً أمنياً عليها للسيطرة على المجموعات الإسلامية المسلحة القابعة في صحراء سيناء، أو هكذا يعتقد أولي الأمر في مصر.

وهكذا، يدور الحديث الآن حول بناء جزيرة اصطناعية في المياه الإقليمية الفلسطينية المقابلة لشواطئ قطاع غزة، يتم استعمالها نقطة عبور وخروج لقطاع غزة، وفيها مطار وميناء ونقطة حدود، وهنا يجب أن تؤخذ النقاط التالية بعين الاعتبار:

1- بناء هذه الجزيرة والمرجح أن تكون كلفتها بين 5-10 بلايين دولار ستقع مسؤولية تمويله على مال النفط العربي وبقرار أميركي.

2- حدود قطاع غزة تبقى مصطنعة وتعكس توافقات إقليمية ودولية تسمح ببناء تلك الجزيرة الاصطناعية. وهكذا تبقى السيادة الفلسطينية مرهونة لحسن نوايا أطراف أخرى، بما فيها إسرائيل وسماحها بالاستمرار في استعمال تلك الجزيرة نقطة عبور وخروج حدودية.

3- إن هذا المخطط قد يتم تنفيذه بالتعاون مع حركة حماس كما هي الآن، أو بعد أن يتم تفتيتها إلى حماس الداخل والخارج، أو بعد أن يتم استبدالها كلياً.

وفي كل الأحوال، من الخطأ الاستمرار في اعتبار إسرائيل قضية تخص الفلسطينيين لوحدهم، وأن خطرها محصور بهم. فإسرائيل والصهيونية هي أيضاً العدو الطبيعي لكل ما هو عربي، وإصرار البعض على اعتبار إسرائيل هي قضية ومشكلة تخص الفلسطينيين لوحدهم هي هرب إلى الأمام، أملاً لدى البعض بأن تختفي المشكلة من تلقاء نفسها، أو الاستسلام القَدَري لها من منطلق «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا»، مع العلم أن «الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»!

عن الحياة اللندنية