أحمد دحبور واحدٌ من الجيل الجميل في الثقافة الفلسطينية، الجيلِ الذي أسس للمشهد الثقافي ما بعد النكبة، إنهُ الجيل الذي انبعث من رماد النكبة وأعاد الاعتبار للهُويّة الوطنية ثقافياً.
يصعب تخيّل صعود الثورة الفلسطينية وتمرّد الفلسطيني على واقعه النكبوي دون النظر إلى الدور الفاعل الذي قام به هذا الجيل، خاصة في الشعر دون التقليل من دور المساهمات الروائية الكبيرة.
جيل فهم الدور المناط به والمتوقع منه، ولم يتملّص، ولم يبحث عن دور آخر، لكنه لم يغفل جماليات نصه ولم يتنازل عن امتياز الشرط الفني، ولم يقع في الشعارات والصراخ والعويل، كأن الولد الفلسطيني رغم معاناته ظل يبحث تحت شجرة السرو عن الكنز المدفون هناك.
يبحث عن بقجة الأحلام الكبيرة التي لم تختف، لكنه تم وضعها في مكان سري، يمكن للولد حين يعود أن يجدها.
إنه جيلٌ مجبول على الحلم، مفتون بتفاصيل القادم بقدر افتتانه ببريق الماضي الذي تسرّب من بين فروج أصابعه في طفولته وصباه، هرب بعيداً، لكنه كلما أوغل في الهرب، اندمغ أكثر في الذاكرة.
العلاقة الجدلية بين التذكر والتخيّل. تذكر الماضي وتخيّل المستقبل. مهمة شاقة ومؤلمة لكنها ليست أكثر إيلاماً من الخروج من الفردوس وترك البيت وألعاب الطفولة، والركض منحدراً في شارع الجبل حيث كان يعيش الطفل الذي سيصبح أحد أهم شعراء فلسطين والمعبرين عن وعيها وهمومها.
كان أحمد أحد أبرز المعبرين عن الألم الفلسطيني، الألم المتوغّل مثل وحش في مسامات الجسد، لكنه رغم جبروته يعجز عن قتل الروح الفلسطينية.
كان البحث عن هذه الروح هو مهمة الشاعر وفضيلة الشعر، لا تمر قصيدة لأحمد دحبور دون أن تشم رائحة هذا الألم وتتعرف إلى مفاصله.
أحمد ظل حتى آخر قصيدة وفياً لهذا الألم، الألم الذي حوّله من طفل يلهو في مدينة جميلة على شاطئ البحر إلى لاجئ في خيمة لا يجد ما يقيه برد الشتاء القارس.
أحمد لم ينس يوماً، كما قد يطيب للبعض أن ينسى أو تدفعهم الظروف للنسيان، أن الألم الفلسطيني، والجرح الفلسطيني لا يندمل إلا بالعودة إلى أصل الحكاية.
وأحمد جزء أصيل من هذه الحكاية، فهو جزء منها، اكتوى بنارها، وتركت أثرها على جسده.
الطفل الفلسطيني الذي تحمله الأقدار خارج مراتع الطفولة، بحثاً عن مكان آمن يصبح مخيمه الذي صار التذكر الأكثر رسوخاً في الذاكرة حول النكبة وأهوالها.
هل يمكن للكاتب أن يكون خارج حكايته؟! ربما يمكن للفلسفة أن تقدم إجابات نظرية كبيرة، كما يطيب لكتاب الغرفة وشعراء الذات أن يحاولوا البرهنة على ذلك، لكن حقيقة الأمر فإنه سيكون من المتعذر على الكاتب أن يكون خارج حكايته، أن يكون شخصاً آخر.
الأمر ينسحب على الشاعر كما على الروائي. بذلك كان أحمد دحبور دائماً جزءاً من حكايته، بل كان هو الحكاية.
فكل ما كان أحمد يقوله شعراً كان ترجمة شعرية ونصية لما يشعر به الولد الفلسطيني الذي عاش ويلات النكبة وذاق بؤس الحال وتربى على الأمل.
لم ينحز أحمد أي شيء خارج الحكاية التي نذر نفسه لروايتها شعراً سواء بالحديث عن طفولته الدائمة سواء في حيفا التي تبدو في حكايات أمه قطعة من الجنة، أو في تهيؤات الفتى الحالم بالعودة إلى هناك، أو من خلال قصص الولد في المخيم التي تكشف بعمق شعري مذهل في "كسور عشرية"، عن الحكاية الفلسطينية كما يمكن لشاب صغير عاش في المخيم في فترة ما بعد النكبة مباشرة أن يرويها.
هذا التناظر بين الهناك وهناك كما يقترح أحد عناوين أحمد دحبور الشعرية، علامة بارزة في الحكاية الفلسطينية.
الحكاية الباحثة عن تحقيق الغد والعودة إلى الأمس. أي صراع هذا، فالفلسطيني يريد للماضي أن يعود لأن في الماضي ثمة يافا وحيفا وثمة ريف مترع بالهدوء ومخمور باليقين.
الماضي الذي هو شاهد على أصل الحكاية. ولأول مرة تكون عودة الماضي هي تحقيق الغد.
فالأمس والغد لصيقان في الحكاية الفلسطينية؟ في مفارقة غريبة تجمع بين النقيضين.
في ذلك فإن الغائب والمتجاوز هو الحاضر الذي يعج بالألم ويطفح بالمعاناة. الحاضر الذي لا يمكن للشعر أن يتجاوزه أو أن يقفز عنه إلا في مجال الاستعارة. بهذا فإن أحمد دحبور الذي حمّل شعره تفاصيل الحاضر سواء الألم أو الحلم أو تفاصيل الشقاء والمعاناة أو ابتسامات المستقبل (المتخيّلة) استطاع أن يكون مُعبراً حقيقياً عن الحكاية الفلسطينية، وظل حتى آخر ما كتب صادحاً بتفاصيلها لأنه كما كان دائماً معبراً عنها. أحمد الفلسطيني بامتياز وواحد من حملة الراية في الصفوف الأمامية للدفاع عن الحق الذي لا يعود دون البحث عنه.
ربما سيظل حديث أحمد عن حيفا وحلمه عنها وبحثه عنها حتى بعد أن رجع إليها زائراً، من أجمل ما قيل في المدينة الجميلة.
لم تكن المدينة، على ما هي عليه من أهمية، إلا مجازاً كبيراً للحلم الفلسطيني، المجاز الذي يتطابق مع الواقع.
حكاية الولد الفلسطيني هي الحكاية الفلسطينية الكبيرة، حكاية الأغنية الوطنية التي يجب أن يعاد الاعتبار لها في ظل تحزيب الأغاني وتحويلها إلى أغانٍ حزبية.
لقد تم التطاول على الأغنية الوطنية كثيراً وعلى التراث الشعبي الذي كان أحمد أحد المدافعين عنه، ولم يتم رد الاعتبار للأغنية الوطنية التي باتت حزبية وفصائلية. عموماً ثمة الكثير الذي يمكن أن يقال عن الثقافة الوطنية ومكانتها وتعزيزها في ظل رحيل واحد من أكبر قاماتها ومؤسسيها المعاصرين.
حديث مليء بالشجن ومترع بالألم. الألم الذي ظل أحمد دحبور مهجوساً به، وغادرنا ونحن على حالنا كما كنا دون أن نعيد ترتيب الأشياء حولنا.