دراسة حول الارمن اعداد د احمد يوسف

thumb (1)
حجم الخط

مذابح الأرمن

حقيقة أم ادعاء؟
دراسة ترد على اتهامات الغرب لتركيا بالتطهير العرقي
وارتكاب مجازر بحق الأرمن، وتفند تلك المزاعم
والحملات المغرضة من التحريض والتشهير والتشويه
د. أحمد يوسف

بيت الحكمة
للدراسات والاستشارات

"بانتظار أن يقول المؤرخون كلمتهم، تبقى الرواية التركية بدلالاتها التاريخية وتعبيراتها السياسية القائمة هي الأكثر تصديقاً وحضوراً عند الحديث عن وقائع العام 1915م"
د. أحمد يوسف

"ليست إبادة الأرمن على يد العثمانيين أسطورة وحسب، ولكن الأسوأ أن تكون فرنسا، من تعهدت أكبر مجزرة في الجزائر، هي من يقود حملة الأرمن ضد تركيا"
د. بشير نافع

الملخص التنفيذي
في الرابع والعشرين من أبريل 2015م يكون قد مرَّ مئة عام على الأحداث المأساوية والمذابح التي طالت أرمن الأناضول والأتراك المسلمين إبان الحرب العالمية الأولى، وذلك في العام 1915م.. وللأسف فإن كل الروايات الغربية تتعمد تجاهل كل ما وقع للمسلمين من مواطني الدولة العثمانية من عمليات قتل وتطهير عرقي، وتهتم فقط بتناول ما تعرض له الأرمن جراء الأجواء المشحونة بالعداء والكراهية التي غذَّتها كل من روسيا القيصرية وبريطانيا، حيث وجدت الدولة العثمانية أن وجودها بات مهدداً من تلك القوى الاستعمارية بسبب الفظاعات وأشكال الخيانة التي قامت بها مجموعات أرمينية في شرق الأناضول.


الغرب الأوروبي يحاول اليوم توصيف ما حدث بأنه "إبادة عرقية" راح ضحيتها مليون ونصف المليون من الأرمن، ويطالب تركيا بالاعتراف بذلك.!!


تركيا أردوغان من جهتها تقول بأن كارثة إنسانية وقعت في تلك الفترة، ولكنها طالت المسلمين والأرمن على حدٍّ سواء وقدمت تعازيها واستعدادها لفتح كل ملفات ووثائق الدولة العثمانية المتعلقة بتلك الحقبة. وطالبت جميع الدول الأخرى بفتح أرشيفاتها للمؤرخين لدراستها بغية الوصول إلى ذاكرة عادلة للحقائق، بحيث تتحدد فيها المسئولية التاريخية لكل طرف عما حدث في العام 1915م.
في هذه الدراسة نعتمد الرواية التركية وقراءة بعض ما كتبه المؤرخون العرب، باعتبار غياب وجهة النظر التركية وهيمنة الكتابات الغربية وسطوة ما نشره الأرمن من حكايات ودراسات وبحوث تعكس روايتهم المنحازة والتي يتم تسويقها سياسياً وإعلامياً في كل بقاع العالم.
لا شك بأن الحملة تستهدف الإساءة والتحريض على تركيا، وخاصة بعدما بدأ يترآى بأن الرئيس أردوغان آخذٌ في الاستقلال بسياسة بلاده بعيداً عن الغربي المسيحي باتجاه الشرق الإسلامي.


لذا؛ وسعياً لتشويه المشهد الإسلامي، يجري التشهير بتاريخ تركيا العثماني بهدف إضعاف تركيا أردوغان وإبقائها في الحاضنة الاستعمارية الغربية.


إن "إبادة الأرمن" هو محاولة ابتزاز مفضوحة لتركيع تركيا أردوغان، والرد التركي عليها هو المطالبة بتحقيقات دولية عادلة ونزيهة لكل ما ورد في صفحات ذلك التاريخ.
هذه الدراسة هي محاولة لتنوير القارئ العربي الذي غابت عنه حقائق تلك الفترة التاريخية، وغلبت على ذاكرة وعيه افتراءات الرواية الأرمينية والغربية.
من أجل توازن الرؤية وفهم وقائع تلك الأحداث التاريخية المأساوية تأتي هذه الدراسة.

مذابح الأرمن


ورقة دولية جديدة للضغط على تركيا أردوغان
في الرابع والعشرين من إبريل 2015م يكون قد مرَّ مائة عامٍ على الأحداث المأساوية التي وقعت في تركيا العثمانية عام 1915م، وطالت الأرمن المقيمين داخل أراضي دولة الخلافة خلال الحرب العالمية الأولى، إلا أن التركيز الأوروبي على تلك الأحداث فقط، وتجاهل وقائع أخرى مشابهة - وربما أكثر مأساوية - لحقت بالمسلمين في أوروبا على مدار أكثر من تسعة عقود، يدعونا للتساؤل والشك حول دواعي ودوافع الحديث عنها - الآن - في الأوساط السياسية الغربية، والنظر إليها باعتبارها شكلاً من أشكال "الإبادة الجماعية"، والعمل على إحياء ذكراها من جديد في أكثر من عاصمة أوروبية.. إن ذلك يدفعنا بقوة للبحث والتقصي حول أبعاد تلك الحملة المسعورة، وخاصة بعد كل المحاولات والجهود التي بذلتها تركيا أردوغان للتصالح مع أرمينيا، وتقديم التعازي والاعتذار عن تلك الأخطاء التاريخية.


لا شك بأن النوايا الغربية ليست خالصة من وراء ذلك، كما أن أهداف حملة الاستهداف لتركيا أردوغان لا تغيب عن ذهن الواعي بوقائع التاريخ، وحقائق السياسة ودوافعها، حيث إن تركيا - اليوم - هي في صدارة المشهد القيادي للأمة، وعلى رأس دول الإقليم في منطقة الشرق الأوسط، كما أنها من أقدر اللاعبين على مناجزة إسرائيل وإحراجها أمام دول العالم، وذلك بسبب سياساتها العدوانية ومواقفها العدائية للشعب الفلسطيني، واحتلالها البغيض لأراضي الضفة الغربية، وحصارها الظالم لقطاع غزة.


إن الغرب المعروف بنفاقه السياسي وتبنيه لسياسة الكيل بمكيالين، وخاصة تجاه قضايا العرب والمسلمين، لم يتذكر – للأسف - من التاريخ إلا ما لحق باليهود من مجازر، وذلك خلال الحرب العالمية الأولى فيما يسمى بالمحرقة (Holocaust)، واليوم أعاد الغرب تحريك ماكينته الإعلامية للتشهير بتركيا أردوغان، وتجريم التاريخ العثماني، وذلك من خلال الحديث عما لحق بالأرمن من مآسي قبل مائة عام مضت، وعندما كانت تركيا تخوض حرباً عالمية طاحنة، ويتعرض وجودها لتهديدات ومؤامرات خطيرة من قبل الدول الغربية.


ومن الجدير ذكره، أنه على مدار المائة سنة الماضية (1915 – 2015م)، استبيحت دماء المسلمين وأرضهم وديارهم وأعراضهم من قبل القوى الاستعمارية الغربية، ولم يتحرك أصحاب الضمائر الإنسانية والمؤسسات الحقوقية في أوروبا وأمريكا لتجريم تلك الأفعال بحق المسلمين وإدانتها.


اليوم – للأسف – يبدو أنه ليس هناك في المشهد الإنساني إلا ما حدث للأرمن قبل مائة عام، أما ما حدث لأهل فلسطين عام 1948م من تهجير وإبادة جماعية ومجازر فهذا ليس مطروحاً للمراجعة على مسطرة الضمير الغربي.! وما حدث خلال السنوات الست الماضية من حروب عدوانية على قطاع غزة راح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى والجرحى أغلبهم من النساء والأطفال، وكذلك حجم الدمار الهائل الذي طال الحجر والشجر، حيث أحياءً بأكملها تمَّ قصفها بالصواريخ والبراميل المتفجرة وتسويتها بالأرض، وهذا ما اعترفت به مؤسسات دولية ومنظمات حقوقية في تقاريرها بأنه جرائم حرب، وجرائم بحق الإنسانية.. للأسف؛ بالرغم من كل هذا الوضوح في التوثيق لمشاهد تلك الجرائم، فليس هناك – حتى اللحظة – أية محاكمات دولية لمعاقبة جنرالات الحرب أو الجهات السياسية المسئولة في إسرائيل.!!
تركيا أردوغان للأرمن: تعالوا إلى وقفة سواء مع التاريخ


ألقى الرئيس التركي؛ رجب طيب أردوغان، كلمة خلال قمة السلام التي عقدت في مركز "الخليج" للمؤتمرات بمدينة إسطنبول، وقد أشار فيها إلى أحداث العام 1915م الخاصة بالأرمن، وقال: "إن الاتحاد الأوروبي ينصحنا بفتح أرشيفاتنا لتقصي حقيقة أحداث العام 1915، وأنا طيلة عملي رئيساً للوزراء على مدار 12 عاماً تقريباً، وعملي رئيساً للبلاد منذ ما يقرب من عام، لم أترك محفلاً دولياً في الخارج أو اجتماعاً شاركت فيه داخل تركيا، إلا وقلت - وما زلت أقول - إننا مستعدون تماماً لفتح أرشيفاتنا، وكثيراً ما كررت أن لدينا ما يقرب من مليون وثيقة ومعلومة حول هذا الأمر. بل لو كان لدى أرمينيا أو غيرها من الدول وثائق أخرى حول الموضوع فليظهروها لنا لتقصيها، كما أننا أيضا مستعدون لفتح أرشيفاتنا العسكرية".


وتابع "أردوغان قائلاً: "إننا نشعر بالحزن على ضحايا الأرمن في الحرب العالمية الأولى، بنفس قدر حزننا الشديد على نحو أربعة مليون مسلم لقوا حتفهم أثناء هجرتهم من البلقان والقوقاز والمنطقة المجاورة، إلى منطقة الأناضول".
أما رئيس الوزراء التركي؛ أحمد داود أوغلوا، فقد أشار بأن: "هناك بعض الجهات واللوبيات في حالة تحرك كامل في مختلف أنحاء العالم، لشن حملة ضد تركيا، تشارك فيها جهات قذرة بشكل استفزازي واضح"، وأضاف بأن هذه الجهات "تهدف إلى تشويه صورة تركيا التي تحاول ممارسة السياسة بعد آلام عاشتها قبل مائة عام".


وأوضح قائلاً: بأن "هذه الجهات تمثل وجهين من التاريخ، فهي سبب ما عاشه الأتراك والأرمن في تلك الفترة، لكنهم - الآن - يدلون بتصريحات وبيانات يدَّعون من خلالها أنهم يدافعون عن الأرمن".!! مؤكداً أنهم لا ينكرون تعرض كافة الشعوب والقوميات لمآسي كبيرة خلال الحرب العالمية الأولى، وليس الأرمن وحدهم، بحسب قوله.


وأكد داود أوغلو أنه من غير الممكن قبول قرار البرلمان الألماني بشأن المزاعم الأرمينية، كما أنه رفض تصريحات بابا الفاتيكان بالنظر إلى تلك الأحداث باعتبارها "إبادة جماعية"، كونها بعيدة كل البعد عن الحقيقة.


وفي مؤتمرٍ صحفيّ عقده في اسطنبول، بشأن تصريحات بابا الفاتيكان المتعلقة بـ"الإبادة الجماعية" المزعومة ضدّ الأرمن في 1915م، أضاف داود أوغلو، أنه ربما لم تقع أحداث 1915م لولا العوامل الخارجية، التي كانت موجودة في تلك الحقبة، وقال: "لا يليق بالبابا ومقامه التحدّث عن آلام قسمٍ معيّن، والتغاضي عن آلام قسم آخر، يمكننا تحقيق السلام عبر تقاسم الآلام وتفهمها، ومحاولة البحث عن الحقيقة وفتح الأرشيفات القديمة، وإعادة تحليلها".


وأشار داود أوغلو إلى أن وظيفة رجال الدين الأساسية هي الاستفادة من الأحداث التاريخية، ودعوة الإنسانية إلى الوحدة والسلام، والعمل من أجل تعزيز الاستقرار في العالم، بدلاً من تشكيل أوساط كراهية واشتباكات، بين المجتمعات.
وأوضح رئيسُ الوزراء التركي، أنه ربما وقع البابا تحت بعض التأثيرات، أو ربما عدم وعيه بالحقبة التاريخية - آنذاك - تسبّب في تصريحاته اليوم بشأن أحداث 1915م.


وقال داود أوغلو متابعاً: “من هنا أوجّه رسالة إلى البابا وكافة العالم المسيحيّ، لو بدأنا المناقشة بشأن الأحداث التاريخية، لكانت العناصر الأوروبية هي أكثر من تخجل من تاريخها، حيث إن تركيا هي من احتضنت اليهود والمسلمين الذين فرّوا من محاكم التفتيش في إسبانيا، هذا كان قبل 500 عام، في الوقت الذي كانت فيه اسطنبول مدينةً للسلام يعيش فيها المسلمون واليهود والرومان والمسيحيون".
ما الذي حصل عام 1915: الرواية وأصل الحكاية


إن من الإنصاف القول بأن الأصل في علاقة الدولة العثمانية بالأرمن كان هي الحماية وتوفير الفرصة، وكان السلطان محمد الفاتح هو أول من أحضر الأرمن إلى أروقة الدولة العثمانية وقياداتها السياسية، وكانت الدولة العثمانية والشعب التركي يسمون الأرمن "ملتي صادقات"؛ أي "الملة الصادقة"، وهو بالطبع وصف إيجابي لا يستقيم معه أن هذا الوجود الذي استمر لعشرات العقود يمكن أن ينتهي فجأة بمشروع إبادة ـ كما يدعي بعضهم.


وبحسب الرواية التركية للأحداث، فإن القوميين الأرمن قد قاموا - إبان الحرب العالمية الأولى التي انطلقت عام 1914م - بالتعاون مع القوات الروسية بغية إنشاء دولة أرمنية مستقلة في منطقة الأناضول، وحاربوا ضد الدولة العثمانية.. وعندما احتل الجيش الروسي شرقي الأناضول، لقي دعماً كبيراً من هؤلاء المتطوعين الأرمن؛ العثمانيين والروس، كما انشق بعض الأرمن الذين كانوا يخدمون في صفوف القوات العثمانية، وانضموا إلى الجيش الروسي.


وبينما كانت الوحدات العسكرية الأرمنية، تعطل طرق إمدادات الجيش العثماني اللوجستية، وتعيق تقدمه، عمدت العصابات الأرمنية إلى ارتكاب مجازر ضد المدنيين في المناطق التي احتلوها، ومارست شتى أنواع الظلم بحق الأهالي.
وسعياً منها لوضع حدٍّ لتلك التطورات، حاولت الحكومة العثمانية، إقناع ممثلي الأرمن وقادة الرأي لديهم، إلا أنها لم تنجح في ذلك، ومع استمرار هجمات المتطرفين الأرمن، قررت الحكومة في 24 أبريل من عام 1915، إغلاق ما يعرف باللجان الثورية الأرمنية، واعتقال ونفي بعض الشخصيات الأرمنية البارزة.


وفي ظل تواصل الاعتداءات الأرمنية، وبرغم التدابير المتخذة، قررت السلطات العثمانية، في 27 مايو من عام 1915م، تهجير الأرمن القاطنين في مناطق الحرب، والمتواطئين مع جيش الاحتلال الروسي، ونقلهم إلى مناطق أخرى داخل أراضي الدولة العثمانية.
ومع أن الحكومة العثمانية، خططت لتوفير الاحتياجات الإنسانية للمهجّرين، إلا أن عدداً كبيراً من الأرمن فقد حياته خلال رحلة التهجير القسري بسبب ظروف الحرب، والقتال الداخلي، والمجموعات المحلية الساعية للانتقام، وقطاع الطرق، والجوع، والأوبئة.


وتؤكد الوثائق التاريخية التركية، عدم تعمد الحكومة وقوع تلك الأحداث المأساوية، بل على العكس، فقد لجأت إلى معاقبة المتورطين في انتهاكات ضد الأرمن أثناء تهجيرهم، وجرى إعدام المدانين بالضلوع في تلك المأساة الإنسانية، رغم عدم وضع الحرب أوزارها.


وعقب انسحاب روسيا من الحرب، جراء الثورة البلشفية عام 1917م، تُركت المنطقة للعصابات الأرمنية، التي حصلت على الأسلحة والعتاد الذي خلفه الجيش الروسي وراءه، واستخدمتها في احتلال العديد من التجمعات السكانية العثمانية.


وبموجب (معاهدة سيفر)، التي اضطرت الدولة العثمانية على توقيعها، تمَّ فرض تأسيس دولة أرمنية شرقي الأناضول، إلا أن المعاهدة لم تدخل حيز التنفيذ، ما دفع الوحدات الأرمنية إلى إعادة احتلال شرقي الأناضول.. وفي ديسمبر 1920م، جرى دحر تلك الوحدات، ورسم الحدود - الحالية - بين تركيا وأرمينيا لاحقًا، بموجب (معاهدة غومرو)، إلا أنه تعذر تطبيق المعاهدة بسبب كون أرمينيا جزءاً من روسيا في تلك الفترة، ومن ثمَّ جرى قبول المواد الواردة في المعاهدة عبر (معاهدة موسكو) الموقعة 1921م، و(اتفاقية قارص) الموقعة مع أذربيجان وأرمينيا، وجورجيا، لكن أرمينيا أعلنت عدم اعترافها بـ(اتفاقية قارص)، عقب استقلالها عن الاتحاد السوفييتي، عام 1991م.


بين الفينة والأخرى، ولاعتبارات سياسية وعرقية، يطلق الأرمن نداءات تدعو إلى تجريم تركيا، وتحميلها مسؤولية مزاعم تتمحور حول تعرض أرمن الأناضول إلى عملية "إبادة" حسب تعبيرهم، وذلك على يد الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى أو ما يعرف بأحداث عام 1915م، كما يفضل الجانب الأرمني التركيز على معاناة الأرمن فقط في تلك الفترة، وتحريف الأحداث التاريخية بطرق مختلفة، ليبدو كما لو أن الأتراك قد ارتكبوا إبادة جماعية ضد الأرمن.


وفي مقابل هذه الادعاءات والمزاعم، اقترحت تركيا - على لسان حكومتها منذ مطلع الألفية الثالثة - تشكيل لجنة من المؤرخين الأتراك والأرمن، لتقوم بدراسة الأرشيف المتعلق بأحداث 1915م، الموجود لدى تركيا وأرمينيا والدول الأخرى ذات العلاقة بالأحداث، لتعرض نتائجها بشكل حيادي على الرأي العام العالمي أو الى أي مرجع معترف به من قبل الطرفين، إلا أن الاقتراح قوبل برفض من أرمينيا، التي تعتبر ادعاءات الإبادة قضية غير قابلة للنقاش بأي شكل من الأشكال. وتقول تركيا إن ما حدث في تلك الفترة هو "تهجير احترازي" ضمن أراضي الدولة العثمانية، وذلك بسبب عمالة بعض العصابات الأرمنية للجيش الروسي.


ومن المعروف بأن رئيس الوزراء التركي؛ أحمد داود أوغلو، زار أرمينيا عام في ديسمبر 2013م، بصفته وزيراً للخارجية في تلك الفترة، وأكد في تصريح صحفي، عقب الزيارة، ضرورة حل القضية عبر تبني موقف عادل وإنساني، بعيداً عن المقاربات أحادية الجانب، والتقييمات الظرفية، منوهاً أنه لا يمكن صياغة التاريخ إلا عبر ذاكرة عادلة.


أما فولكان بوزكير؛ وزير شؤون الاتحاد الأوروبي وكبير المفاوضين الأتراك، فقد أشار في مقابلة صحفية: بأنه "لا توجد أي نقطة تدعو للخجل في تاريخ الجمهورية التركية، ولا في التاريخ العثماني"، مضيفاً: بأن "كل ما نطلبه هو ألا تُستغل الأحداث التاريخية سياسياً، وألا يُعطي الساسة قرارات متعلقة بأحداث تاريخية - في إشارة إلى أحداث العام 1915م".


وأوضح بوزكير، قائلاً:" إن ضمير الشعب التركي مستريح للغاية بخصوص عدم وجود ما يخجل منه في تاريخ بلاده"، مشيراً إلى أن "تركيا ليست دولة تمارس ضغوطاً على المؤرخين، فجميع أرشيفاتنا مفتوحة للجميع، ولا نطلب ممن يريد أن يأتي لفحص الوثائق أن يقول رأياً يوافق قناعاتنا، الأمر متروك للحقائق التي تكشف عنها الوثائق أياً كانت. فليأتِ من يريد من الأكاديميين من أي مكان في العالم، لقراءة الوثائق لمعرفة حقيقة تلك الأحداث".


ولفت إلى أن الرئيس الأرمني لا يسمح للأكاديميين الأرمن بتفقد الأرشيف العثماني، مضيفاً "أما نحن فندعو الجميع.. فأرشيفاتنا مفتوحة ولا توجد أي محذورات لدينا في هذا الشأن، ولنشكل لجنة تاريخية، وهى التي تقرر ما تريد بشأن تلك الأحداث دون وصاية من أحد، وسبق وأن أعلن رئيس وزرائنا والرئيس التركي أنهم سيقبلون بأي قرار يصدر عن لجنة تاريخية قلنا إنها عنصر أساسي من البرتوكولات التي وقعناها مع أرمينيا".


وتابع بوزكير، قائلاً: "هناك الكثير من الذكريات الجميلة جداً بين تركيا وشعبها والأرمن على مدار التاريخ، ومن الخطأ اختزال هذه الذكريات في عام واحد، والدوران حول كلمة "الإبادة العرقية - Ethnic Cleansing".
إن تركيا لم تتنكر لتلك الأحداث المأساوية، فقد أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن تعازيه لكافة مواطني الدولة العثمانية الذي فقدوا حياتهم إبان الحرب العالمية الأولى، وعلى رأسهم الأرمن، ووجه دعوة من أجل السلام والتصالح، وذلك في رسالة بتاريخ 23 أبريل 2014م، عندما كان رئيساً للوزراء.
تركيا.. الملاذ الآمن للمضطهدين عبر العصور


كانت الدولة العثمانية عبر مختلف العصور والحقب التاريخية، ملاذاً آمنًا للشعوب التي أجبرت على ترك أوطانها، بسبب تعرضها للقمع والاضطهاد، وفي يومنا هذا، تواصل تركيا القيام بالدور ذاته، من خلال مدها يد العون للاجئين من جميع أنحاء العالم، مقدمة لهم ما تستطيع من كرم الضيافة.
وبنظرة سريعة للتاريخ، نجد أن الأتراك فتحوا أبواب بلادهم أمام جميع الهجرات التي نتجت عن سياسات القمع والاضطهاد على مرِّ التاريخ.


يهود إسبانيا؛ ففي عام 1492م، استقبلت الدولة العثمانية اليهود الهاربين من الفظائع التي شهدتها إسبانيا آنذاك، وأصدر السلطان العثماني “بايزيد الثاني بن محمد الفاتح” فرماناً مرسوماً متعلقاً باليهود الذين لجأوا إلى الدولة العثمانية للنجاة بأرواحهم من الاضطهاد الإسباني، لعل أبرز ما جاء فيه: "على الجميع استقبال اللاجئين بكل رحابة صدر، وعلى كل شخص يصدر عنه سلوكٌ مخالفٌ لهذا الأمر، أو يصدر عنه تعامل سيء تجاه اللاجئين، أو يتسبب لهم بأي ضرر، أن يعلم بأن عقابه سيكون الموت، ناهيكم عن أن قضية إعادة اليهود الذين لجأوا إلينا من إسبانيا، هي قضية مرفوضة ولن تخضع للنقاش".


أتخلى عن مُلكي، ولا أسلّم لاجئًا احتمى بدولتي، ولعل رفض السلطان العثماني "عبد المجيد الأول" تسليم اللاجئين المجر والبولنديين الذين فروا من بلادهم بسبب القمع والاضطهاد واحتموا بالدولة العثمانية إلى روسيا والنمسا، يعتبر من الأمثلة التاريخية المهمة، التي تظهر مدى حرص الدولة العثمانية على القيام بحماية من احتمى بها ولجأ إليها.


وفى الوقت الذي سعت فيه كل من روسيا والنمسا إلى ممارسة مختلف أنواع الضغوط على الدولة العثمانية من أجل إعادة اللاجئين، إلا أن السلطان عبد المجيد وضع حدًّا لجميع تلك الضغوط قائلًا: "إن تسليم تاجي ومُلكي لأهون عليَّ من أن أُسلم شخصاً واحداً احتمى ببلدي".
وسرعان ما انتشرت جملة السلطان عبد المجيد تلك، انتشار النار في الهشيم بين شعوب العالم التي تعاني من الاضطهاد، كما كان لتلك الكلمات وقع خاص وتأثير كبير في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة.


ومن تلك الأمثلة أيضًا، رفض السلطان العثماني “بايزيد يلدرم” (الصاعقة) تسليم كل من حاكم بغداد السلطان أحمد بن أويس الجلايري، وأمير دولة القره قويونلو “قره يوسف” وعائلاتهم، للقائد التتاري "تيمور لنك"، وفضّل السلطان العثماني، الدخول بحرب مع تيمور لنك، عرفت باسم “معركة أنقرة” (1402م)، والوقوع في الأسر، على أن يسلم من لجأ إلى دولته.


وعلى خطى ونهج الدولة العثمانية صارت تركيا، وفتحت أبوابها أمام كل المظلومين والمضطهدين حول العالم، حيث أصبحت إحدى الوجهات الرئيسية التي توجه إليها اليهود الهاربين من ظلم النازية، وفتح مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك أبواب تركيا عام 1933م أمام اليهود، وسمح لهم باللجوء إلى بلاده، ووجه دعوات لعدد كبير من العلماء الذين هم من أصل يهودي للتوجه إلى تركيا، لإنقاذ حياتهم من مجازر النازيين.


كذلك كانت سياسة تركيا، تجاه أتراك الأيغور الذين تعرضوا ولا زالوا يتعرضون للاضطهاد من قبل الصين، التي تحتل بلادهم تركستان الشرقية منذ أربعينيات القرن الماضي، وتجاه اللاجئين الإيرانيين الذين أجبروا على ترك بلادهم عقب ثورة الخميني عام 1979م، حيث هاجر إبان الثورة الإيرانية نحو مليون مواطن إيراني إلى تركيا، التي فتحت أبوابها في وجههم وسعت لتلبية احتياجاتهم.


كما فتحت تركيا أبوابها أيضًا في وجه اللاجئين من أكراد العراق، حيث استقبلت نحو 50 ألف كردي عراقي عام 1988م؛ أي في المرحلة التي تلت ارتكاب نظام الرئيس الراحل صدام حسين مجزرة الكيماوي ضد مواطنيه الأكراد في مدينة حلبجة.


وعلى نفس الخطى، منذ بداية الأزمة في سوريا عام 2011م، وقفت تركيا أردوغان إلى جانب الشعب السوري، وفتحت أبوابها أمام اللاجئين الذين هربوا من هول المجازر التي وقعت في بلادهم، ممارسةً سياسة "الباب المفتوح"؛ تلك السياسة التي كانت بمثابة شريان الحياة للشعب السوري، حيث وصل عدد اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا إلى 2 مليون لاجئ وما تزال الأعداد في تزايد مستمر، وقد سعت تركيا أردوغان لتلبية احتياجاتهم، وتوفير الأمن لهم، في خضم ما تشهده المنطقة من أزمات وحروب.‎


من هنا تأتي تلك الكلمات الواثقة للرئيس أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو حول المسيرة التاريخية لبلادهم، وما قدمته من مواقف إنسانية تستحق التقدير والاحترام من كل شعوب العالم.. ولذا، كانت تصريحاته القوية ضد أوروبا التي لا يحفظ تاريخها إلا الحروب والمجاز وسفك الدماء، بالقول: "أدعو الدول التي قدّمت دعمها للمزاعم الأرمنية، إلى إزالة الأدران من تاريخها واحدةً بعد الأخرى".
شهادات بعض المؤرخين:


يقول د. بشير نافع؛ الباحث في التاريخ الحديث: "إن المسألة الأرمنية في أحد وجوهها، تبدو شأناً تاريخياً أكاديمياً بحتاً. فمنذ بداية عصر التحديث العثماني في منتصف القرن التاسع عشر، شهد شرق الأناضول انفجار توترات متفرقة بين السكان الأرمن المسيحيين والأكراد والأتراك المسلمين. عادت أسباب التوتر إلى نشاطات العناصر القومية الأرمنية على الجانب الروسي من الحدود العثمانية - الروسية، أو إلى النشاطات المتزايدة للمبشرين الغربيين، أو إلى الأجواء القومية للقرن التاسع عشر، والأساطير التي رافقت ولادة الفكرة القومية. ولكن ما شهدته سنوات الحرب الأولى كان شيئاً آخر مختلفاً تماماً. فبعد فشل الهجوم العثماني على روسيا، وبداية اهتزاز وضع السلطنة العسكري، أخذت المنظمات القومية الأرمنية، بتشجيع ودعم روسي، في تسليح مجموعات أرمنية عثمانية للعمل على تقويض الجهد العسكري العثماني. ولأن مناخ العلاقات بين الطوائف والأعراق في المنطقة لم يكن صحياً، انتشرت الفوضى المسلحة، وهوجمت قرى كردية وتركية وأرمنية. في نهاية 1915م وبداية 1916م، تعهدت سلطات الحكم العثماني، الذي كانت تقوده جمعية الاتحاد والترقي، بنقل أغلبية السكان الأرمن من مناطق تواجدهم في منطقة شرق وشمال شرق الأناضول، المستهدفة من الروس، إلى الجنوب والجنوب الغربي، بينما هاجر آخرون إلى منطقة القوقاز الروسية. ما حدث خلال عملية النقل القسري الهائلة، أو الهجرة، التي تمت في شهور شتاء قارس وأجواء حرب مدمرة، أن عشرات وربما عدة مئات ألوف من الأرمن لقوا حتفهم".


ويشير د. نافع بالقول: "السؤال الذي ما يزال محل خلاف بين مؤرخي تلك الحقبة يتعلق بما إن كان هناك تخطيط مسبق من قادة حكومة الاتحاد والترقي (سيما وزارة الداخلية) للقضاء على أكبر عدد ممكن من المواطنين العثمانيين الأرمن، وليس مجرد نقلهم من أماكن سكنهم، وهو الموقف الذي تتبناه الحركة القومية الأرمنية في جمهورية أرمينيا وفي كافة أنحاء العالم، ويوافقهم فيه عدد من المؤرخين وبعض الأوساط الغربية السياسية، بما في ذلك البرلمان الفرنسي. يستدعي هذا السؤال، بالطبع، أسئلة أخرى، مثل ما إن كانت الدولة الجمهورية التركية الوريث الشرعي للحكم العثماني، وتتحمل بالتالي المسؤولية الأخلاقية عن الكارثة الأرمنية، وربما حتى ما هو أكبر من المسؤولية الأخلاقية. القطاع الأكبر من الأتراك، سياسيين وأكاديميين ورأياً عاماً، ترفض فكرة اتهام الإبادة الجماعية المخططة أو ترفض مسؤولية الجمهورية عن أحداث وقعت في زمن وعلى يد نظام حكم مختلف. بل إن ثمة أدلة متزايدة، يقرها عدد من المؤرخين الغربيين، على أن عدد ضحايا العثمانيين المسلمين، من أتراك وأكراد، في جنوب وجنوب شرق الأناضول، على يد المسلحين القوميين الأرمن، لم يقل عن عدد الضحايا الأرمن".


أما د. سلامي قليج؛ رئيس قسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة أتاتورك، فقد أشار قائلاً: "إن الوثائق الألمانية تظهر بما لا يدع مجالًا للشك تعرض المسلمين والأتراك في الأناضول لمذابح من قبل العصابات الأرمنية، مطلع القرن الماضي، يندى لها جبين الإنسانية.". وأضاف قليج: "إنه من المحزن أن تصف ألمانيا اليوم، ما جرى في 1915م، بأنه كان مذبحة جماعية أو عرقية، في الوقت الذي يحفل الأرشيف الألماني بما في ذلك الرسائل، والوثائق الموجودة في وزارة الخارجية الألمانية، بالكثير من الأدلة التي تؤكّد تعرض المسلمين في الأناضول إلى مذابح شنيعة على يد العصابات الأرمنية الموالية لروسيا ودول الحلفاء".


وأشار قليج إلى أن الصحف الألمانية الصادرة في الفترة نفسها، لا تقل أهميتها أبدًا عن أهمية الوثائق الدبلوماسية، والسياسية المحفوظة في وزارة الخارجية الألمانية في "برلين"، حيث كتبت الصحف الصادرة عام 1915م مطولاً عن جرائم العصابات الأرمنية، والمذابح الوحشية التي قامت بها ضد مسلمي الأناضول، كما تابعت الصحف الألمانية الصادرة ما بين 1915 حتى 1918 سرد وقائع الدعم الكبير الذي قدمه الأرمن للجيوش الروسية التي احتلت منطقة القوقاز أولاً ثم مناطق شرقي الأناضول، فضلًا عن مشاركتهم كميليشيات ضمن الجيش الروسي، حيث وصلت أعداد أفراد تلك الميليشيات إلى أكثر من 150 ألفًا، قامت بارتكاب الفظائع والمجازر التي أندت جبين الإنسانية ضد المسلمين في مناطق شرق الأناضول والقوقاز، بغية إخلاء تلك المناطق من المسلمين والسيطرة على الأرض بعد القضاء على شعبها.


أما الباحث والمؤرخ الإسلامي معتز زاهر فقد علَّق على ما يثيره البعض في الأوساط السياسية والإعلامية؛ الدولية والمحلية، من مطالبات بتعويضات مادية تتحمل كلفتها الحكومة التركية الحالية نتيجة ما سمي بجرائم "الإبادة الجماعية"، التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحق الأرمن، قائلاً: إن الأبواق المتعصبة ودراويش العلمانية وأبناء المستشرقين والمتفرنجين ترتفع أصواتهم - اليوم - بسبب الذكرى الوهمية المسماة زورًا بمذبحة الأرمن، لافتاً النظر إلى أنهم يستخدمونها كورقة ضغط على تركيا، علاوة على تصويرهم التاريخ الإسلامي والخلافة العثمانية باعتبارهم كمتوحشين قتلة!


وأشار زاهر إلى أن الزعيم الوطني مصطفى كامل كان قد تعرض للوهم المُسمى مذبحة الدولة العثمانية للأرمن – بحسب وصفه - وذلك في فصل كامل من كتابه بالغ الأهمية (المسألة الشرقية)، وسماه (المسألة الأرمنية).

ونبه الباحث الإسلامي إلى قول مصطفى كامل إن إنجلترا قد سلّحت الأرمن البروتستانت، وألقت عليهم التعليمات بإحداث “هيجان” في كافة أنحاء المملكة العثمانية، والاعتداء على المسلمين في كل بلد عثمانية، ووعدتهم بالمساعدة والتدخل وإيجاد مملكة أرمنية مستقلة.
وتابع: وبحسب كلام مصطفي كامل، فإن إنجلترا والت الأرمن للتشجيع والتحريض على متابعة الثورة والهيجان، وما فتئت ترسل إليهم الذخائر والأسلحة وتحضُّهم على الاسترسال في التمرد والعصيان، فعملوا بتحريضها وتلطخوا بدماء الجرائم والفظائع متسلحين في كل أعمالهم بالأسلحة الإنجليزية. وكان لإنكلترا في الثورة الأرمنية جملة مقاصد؛ فهي كانت تريد قبل كل شيء زعزعة أركان الأمن والسلام في تركيا، وإضعاف سلطة الحكومة العثمانية، وإرهاب جلالة السلطان الأعظم وإجباره على الخضوع لرغباتها والعمل بأوامرها.
شهادة مدفونة في أضابير قسم الوثائق الأمريكية:


هذه الشهادة هي عبارة عن تقرير لرجلين لم يكونا متعاطفين مع العثمانيين المسلمين بل كانا متعصبين للأرمن، وجاءا إلى المنطقة على خلفية جاهزة سلفاً، وهي أن الأرمن شعب مستضعف ارتكب المسلمون مجازر جماعية بحقه، حسب المعلومات المستقاة من وسائل الإعلام الغربية المضللة، ومن المبشرين البروتستانت الأمريكيين الذين لم يكونوا جديرين بالثقة كلياً كشهود على معاناة المسلمين، حيث كانوا بارعين في تدوين أعمال ضد الأرمن بتفصيل كبير، ولم يكونوا كذلك في تدوين أعمال عنف ضد المسلمين كما ذكر ذلك بعض المؤرخين! فمن هما هذان الشاهدان اللذان رجعا إلى أميركا بغير الوجه الذي ذهبا به إلى شرقي الأناضول؟


إنهما النقيب إموري نيلز، وآرثر سذرلاند، حيث أمرتهما حكومة الولايات المتحدة الأمريكية باستقصاء الوضع في شرقي الأناضول. ونزلا منطقة الأناضول وتجولا في جميع أنحاء المنطقة، وسمعا شهادة الطرفين، وفوجئا بحجم التزوير والتلفيق الذي اقترفه الأرمن، وصعقا من هول معاناة المسلمين ومن الجرائم الفظيعة التي ارتكبها الأرمن بحق المسلمين! ولما لم يرق التقرير الحكومة الأمريكية تم استبعاده، ولهذا السبب لم يضمن تقريرهما وثائق لجنة التحقيق الأمريكية.. ومن فضل الله تعالى، أنها لم تتلف بل كانت مخبأة ومدفونة في مواضيع لها صلة بملف الحرب العالمية الأولى في شرقي الأناضول! وقد قام كارثي بنشر هذا التقرير عام 1994م، ثم نشره في كتابه (المسلمون والأقليات)! وأعاد نشره في كتابه (الطرد والإبادة) .


أما عن تقرير "نايلز وسذرلاند"، فقد جاء فيه: "إن المنطقة الممتدة من (بتليس) عبر (وان) إلى (بايزيد) أُخبرنا بأن الضرر والتدمير في كل هذه المنطقة كانا من فعل الأرمن، الذين استمروا في احتلال البلد بعد أن انسحاب الروس، والذين دمروا كل شيء يخص المسلمين مع تقدم الجيش التركي. علاوة على ذلك، اتُهم الأرمن بارتكاب أعمال قتل واغتصاب وإحراق عمد للممتلكات وأعمال وحشية رهيبة من كل وصف ضد السكان الأصليين. كنا في البداية في ريب كبير بشأن تلك الروايات، لكننا توصلنا في النهاية إلى تصديقها، لأن الشهادات كانت بالإجماع بكل ما في الكلمة من معنى وجرى تأييدها بالأدلة المادية. على سبيل المثال كانت الأحياء الوحيدة التي ظلت سليمة في مدينتي بتليس ووان أحياءً أرمينية، كما كان جلياً من الكنائس والكتابات على البيوت، بينما كانت الأحياء المسلمة مدمرة على نحو كامل. لا تزال القرى التي قيل إنها كانت أرمينية قائمة، بينما كانت القرى المسلمة مدمرة كاملة".


وجاء في تقريرهما أيضاً: "إن الوضع العرقي في هذه المنطقة (بايزيد- أرضروم) متفاقم بشدة بسبب قرب جبهة أرمينية التي يأتي اللاجئون منها بروايات عن مجازر ووحشية وفظاعات ترتكبها الحكومة الأرمينية والجيش والشعب ضد السكان المسلمين. ومع أن بضع مئات من الأرمن يعيشون فعلاً في إقليم (وان)، إلا أنه من المستحيل أن يستطيع الأرمن العيش في المناطق الريفية لإقليم أرضروم، حيث يبدي الجميع ذروة الكراهية لهم. وهنا أيضاً خرَّب الأرمن القرى قبل أن ينسحبوا، وارتكبوا المجازر وكل أنواع الأعمال الوحشية ضد المسلمين، وأعمال الأرمن هذه على الجانب الآخر من الجبهة تُبقي الكراهية للأرمن حية ومؤثرة، كراهية تبدو أنها على الأقل تُرغي وتُزبد في منطقة (وان). أكّد على وجود فوضى وجرائم لاجئون من جميع مناطق أرمينية، وضباط بريطانيون في أرضروم" .


وقدم "نايلز وسذرلاند" في تقريرهما إحصائية؛ تعداد القرى والبيوت المسلمة الناجية من جحيم الحرب حول مدينتي (وان) و (بتليس) فقط وعلى سبيل المثال، حيث أثبت أن الأرمن دمروا أكثر بيوت المسلمين، ولم يبق أي أثر لجميع المباني والمنشآت الدينية الإسلامية!
الحاجة إلى ذاكرة عادلة والتفهم المتبادل
إن أرمينيا واللوبيات الأرمنية في أنحاء العالم بشكل عام، تطالب تركيا بالاعتراف بأن ما جرى خلال عملية التهجير على أنه "إبادة جماعية"، وبالتالي دفع تعويضات.


وبحسب اتفاقية 1948م، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فإن مصطلح "الإبادة الجماعية"، يعني التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية.
وتؤكد تركيا عدم إمكانية إطلاق صفة "الإبادة العرقية" على أحداث 1915م؛ بل تصفها بـ"المأساة" لكلا الطرفين، وتدعو إلى تناول الملف بعيدًا عن الصراعات السياسية، وحل القضية عبر منظور "الذاكرة العادلة"؛ الذي يعني باختصار التخلي عن النظرة أحادية الجانب إلى التاريخ، وتفهم كل طرف ما عاشه الطرف الآخر، والاحترام المتبادل لذاكرة الماضي لدى كل طرف.


كما تقترح تركيا القيام بأبحاث حول أحداث 1915م في أرشيفات الدول الأخرى، إضافة إلى الأرشيفات التركية والأرمنية، وإنشاء لجنة تاريخية مشتركة تضم مؤرخين أتراك وأرمن، وخبراء دوليين.
أرمينيا تتجاهل فرصة تطبيع العلاقات:


شهد عام 2009م أهم تطور من أجل تطبيع العلاقات بين البلدين، حيث وقَّع الجانبان بروتوكولين من أجل إعادة تأسيس العلاقات الدبلوماسية، وتطوير العلاقات الثنائية، في أكتوبر، بمدينة زيورخ السويسرية.
ويقضي البروتوكولان، بإجراء دراسة علمية محايدة للمراجع التاريخية والأرشيفات، من أجل بناء الثقة المتبادلة وحلِّ المشاكل الراهنة، فضلًا عن الاعتراف المتبادل بحدود البلدين، وفتح الحدود المشتركة.


كما نصّ البروتوكولان على التعاون في مجالات السياحة والتجارة، والاقتصاد، والمواصلات، والاتصالات، والطاقة والبيئة، والإقدام على خطوات من أجل تطبيع العلاقات انطلاقًا من المشاورات السياسية رفيعة المستوى وصولًا إلى برامج التبادل الطلابي.
وأرسلت الحكومة التركية، البروتوكولين إلى البرلمان مباشرة من أجل المصادقة عليهما، فيما أرسلت الحكومة الأرمنية، نصيهما إلى المحكمة الدستورية من أجل دراستهما، وحكمت المحكمة أن البروتوكولين لا يتماشيان مع نص الدستور وروحه.
وبررت المحكمة قرارها بإعلان الاستقلال، الذي ينص على "مواصلة الجهود من أجل القبول بالإبادة الجماعية في الساحة الدولية"، والذي يعتبر شرقي تركيا جزءًا من الوطن الأرمني، تحت مسمى "أرمينيا الغربية".
وأعلنت أرمينيا تجميد عملية المصادقة على البروتوكولين، في يناير عام 2010، وبعد خمسة أعوام سحبتهما من أجندة البرلمان، في فبراير الماضي.


بلا شك، هناك جهات غربية تحرض أرمينيا على إبقاء هذا الملف مفتوحاً كورقة للمساومة والتهديد، حيث إن معظم هذه الدول الغربية قد ارتكبت مجازر بحق الأقليات الإثنية والعرقية فيها، وهي في أغلبها ذات أصول إسلامية. ومن هنا؛ تتضح دواعي عمليات التحريض ودوافعها ضد تركيا أردوغان اليوم.


لماذا يثير الغرب تهمة إبادة الأرمن الآن؟
كان الموقف الغربي بالمجمل طوال العقود الماضية - في الفترة التي كانت فيها تركيا بعيدة عن تراثها وهويتها، وباحثة عن التحالف مع الغرب والكيان الصهيوني، ورافضة للارتباط بالمجتمع المسلم الدولي - يميل إلى وصف ما حدث للأرمن في نهاية الدولة العثمانية أنه كارثة، ويرفض فكرة أن توصف تلك الأحداث بأنها كانت إبادة عرقية أو ما شابه. وتبنت الجمعيات الصهيونية، والكيان الصهيوني، الفكرة نفسها الرافضة لفكرة الإبادة. ويؤكد ذلك الكاتب البريطاني الأصل والصهيوني المزاج «برنارد لويس»، في عدد من الدراسات والكتب حول تلك الكارثة، وهو الذي لا يعرف بتعاطفه مع العالم المسلم بأي شكل من الأشكال.


ورغم أن الأمم المتحدة أعلنت أنها لا تعتبر ما حدث في تركيا في بداية القرن «إبادة عرقية»، وهو الموقف الدولي الرسمي من تلك الأحداث حتى الآن وعلى مدى تسعة عقود كاملة؛ إلا أن أوروبا والكيان الصهيوني وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأوا في تغيير مواقفهم في الآونة الأخيرة بناء على حسابات إستراتيجية جديدة. أوروبا تريد عرقلة دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولذلك أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً عام 1987م ينص على أن الأحداث التي جرت للأرمن عام 1915 - 1917م كانت عملية إبادة جماعية، وفقاً لمعايير الأمم المتحدة عام 1948م، وربط انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي باعترافها بالمذابح الجماعية للأرمن، ولكن بدون تبعات سياسية، أو قانونية أو مادية. ومع الوقت بدأت فرنسا الرافضة لدخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في استخدام ورقة الضغط نفسها، ولذا كان برلمانها هو أول برلمان نادى باعتبار ما حدث في تركيا مع الأرمن «إبادة عرقية». فقد أرادت الجمعية الوطنية الفرنسية عام 2006م تقديم مشروع قرار يطالب بمعاقبة كل من ينكر إبادة الأرمن على أيدي العثمانيين في 1915م".


أما الكيان الصهيوني فقد كان يرى أهمية المصالح الإستراتيجية مع تركيا طوال العقود الماضية، حتى تولى حزب العدالة والتنمية سدة الحكم في تركيا، حيث تغيرت العلاقة وتبعها تغير الموقف الصهيوني من ملف الأرمن. وفي الأعوام الأخيرة بدأ الكيان الصهيوني يستشعر الخطر من ميول حزب العدالة والتنمية إلى دعم القضية الفلسطينية، والابتعاد التدريجي لتركيا عن التحالف مع ذلك الكيان، وظهر على الفور من ينادي داخل ذلك الكيان بفتح ملف «الإبادة» ضد تركيا اليوم! ثم تسبب نهوض تركيا من كبوتها الاقتصادية وعودتها التدريجية إلى التعاطف مع قضايا العالم المسلم، واستعادة هويتها الإسلامية؛ في قلق الدوائر الأمريكية من هذه النهضة، وهو ما يعني السعي نحو تحجيم التطور التركي، وهو ما استدعى بشكل مباشر البحث في ملفات الماضي عما يمكن أن يحجم تلك النهضة.

 وفي عام 2007م تبنى الكونغرس الأمريكي قراراً حول الإبادة، ولكن الرئيس السابق جورج دبليو بوش أجّل التوقيع عليه إلى أن غادر البيت الأبيض حرصاً على عدم دفع العلاقات الإستراتيجية بين بلاده وتركيا إلى مزيد من التوتر والسوء. ومؤخراً أقرت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي قراراً يؤكد «الإبادة» بغالبية صوت واحد فقط. وقد أقرت اللجنة الأمريكية مشروع قرار الاتهام بأغلبية 23 صوتاً مقابل 22، جاء فيه «أن الجمهورية التركية الحديثة قامت على أنقاض الدولة العثمانية التي عملت خلال السنوات (1915-1923م) على تهجير الأرمن من قراهم ومدنهم التي كانوا يسكنون فيها في شمال الأناضول وجنوبه، بتهمة (التحالف مع روسيا)، وأن هذه الممارسات التركية (توجت بإبادة جماعية) بحق الأرمن".


"لقد تفهم اللوبي الأرميني التغير في المزاج الأوروبي والأمريكي الهادف إلى تحجيم انطلاقة تركيا، ونجح إلى حد كبير في المناداة بفكرته في دول الغرب كلها، وبعض دول أمريكا الجنوبية واللاتينية التي تتركز فيها الجاليات الأرمينية من أصول لبنانية وسورية وتركية أيضاً. وقد قامت الدول التالية - وعددها 19 دولة - بتمرير قرارات عبر برلماناتها في الآونة الأخيرة تشير إلى أن ما حدث بين الدولة العثمانية وبين الأرمن في بداية القرن الماضي كان بشكل ما يُعد «إبادة عرقية» وهذه الدول هي: الأرجنتين وبلجيكا وفرنسا وهولندا وسويسرا وإيطاليا وكندا ولبنان وروسيا وسلوفاكيا وأوروجواي واليونان وقبرص اليونانية وبولندا وألمانيا وليثوانيا وشيلي وفنزويلا. وهناك مشروعات قرارات في برلمانات الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا وأستراليا. واستعراض تلك الدول يؤكد التوافق غير المعلن بين الغرب وبين اللوبي الأرمني الذي يعمل جاهداً على استمالة أوروبا الغربية بالعموم ضد تركيا، وكذلك يحاول الاستفادة من الضغط على دول أمريكا الجنوبية لوجود جاليات أرمينية مؤثرة بها لتشكيل نوع من الضغط الدولي باتجاه تبني الموقف الأرميني من القضية.
ملف الإبادة ويد إسرائيل الخفية:


إن عملية إعمال الفكر وإمعان النظر حول ما يدور من حملة استهداف للتاريخ العثماني، سوف تقودنا إلى أن هناك جهات إسرائيلية ليست بعيدة عن دائرة التحريض ومحاولة تشويه صورة تركيا أردوغان والتشهير بها، وذلك من خلال إشغال الرأي العام العالمي بالحديث عن ذلك التاريخ البعيد ومآسيه؛ لأن حاضر الدولة التركية اليوم أنها غدت مثابة للناس وأمنا، فهي بمثابة الحاضنة والأم الرؤوم لكل المستضعفين من المهاجرين والمضطهدين المسلمين في عالمنا العربي، حيث إن هناك أكثر من خمسة ملايين لاجئ من سوريا ومصر وليبيا وفلسطين ومناطق إسلامية أخرى، كالبوسنة والشيشان والقرم والقوقاز يتخذونها ملاذاً للأمن والاستقرار والعيش الكريم لهم.


إن الرئيس أردوغان في خطاباته التي ينتقد فيها السياسيات الغربية العنصرية ضد المسلمين، وينتقد احتكارها للقرار الأممي، وتغييب العدالة في تعاملاتها مع العالمين العربي والإسلامي، والتنكر للجهود التي تبذلها تركيا أردوغان من أجل أن تضع الحرب أوزارها في أكثر من مكان في العالم، وكذلك في تحركاتها ذات الطابع الإنساني، وعملها الإغاثي الدؤوب تجاه بلدان فقيرة في آسيا وأفريقيا، كل هذا أسهم في تعرية أهداف الدول الغربية الاستعمارية العاملة وادعاءاتها هناك.


إن هذه الحملة التي تتخذ من مزاعم وادعاءات تاريخية لم يتم تمحيصها بعد، إنما هدفها هو تحجيم دور تركيا أردوغان في قيادة دول المنطقة، وتحريكها نحو قضاياها ذات الاهتمام المشترك؛ وهي صورة الإسلام ومكانته في العالمين، والقضية الفلسطينية ومقدساتها الإسلامية، وحالة التضامن والتكامل بين دول المنطقة.


لا شك أن الذهنية الغربية الخبيثة تحاول الربط بين ما تقوم به بعض الف