لا تليق بالشعر مناسبة أو مناسبات، ولا وقت أو أوقات؛ فله كل المناسبات وكل الأوقات، فالقصيدة نفسها هي عيد نفسها كل يوم، كل ساعة، بل كل دقيقة ولحظة. وتجاوزاً للتعبير الأفلاطوني حول معضلة الوجود واللاوجود، أقول إن الشعر هو الوجود كله، هو مادة الكينونة وسؤالها الحي المفتوح على المفاجآت في أقصاها، انطلاقاً من ارتياد الشعراء الكبار للأبعاد الداخلية لتجاربهم العميقة، المعطوفة على درس التأويل والإدراك لكل ما يحيط بهم من ظواهر بائنة، وأخرى متخفيّة وغامضة، تنتظر من يفكّ لغزها لتكشف عن كون لم يقتحم بعد.
إن الشاعر الحقيقي هو الذي يعرف كيف يجتاز الامتحان الفاصل لدرس الشعرية فيه، وهو درس لا قواعد له، ولا طرق بعينها دالّة عليه، اللهمّ إلاّ «قواعد» و»طرق» التجربة نفسها.. التجربة المفارقة، المدهشة بأسئلتها، وعلّة فاعليّاتها، وتنامي مظانّاتها، التي يَسِمها النقاد والدارسون بـتوصيف»الإبداع».
ومع ذلك كله، لا بدّ من التنويه بما أعلنته منظمة اليونيسكو في عام 1999 بتكريس يوم عالمي للشعر في 21 مارس من كل عام، بناء على اقتراح ثقافي عربي فلسطيني مُسبّق (أعقبه دعم ثقافي مغربي، قدمته «اللجنة الوطنية المغربية لليونيسكو»، كان تقدّم به في عام 1997 الشعراء: فدوى طوقان، محمود درويش وعزالدين المناصرة إلى مدير عام اليونيسكو وقتها، الإسباني فيدريكو مايور، الذي رحّب بالفكرة، وسهّل تنفيذها، انطلاقاً من كونه شاعراً في المقام الأول، ولكونه أيضاً ينتمي إلى عائلة برشلونية مطعّمة بجذور عربية أندلسية تعود إلى القرن الثامن الميلادي. وينبغي أن نُذكّر هنا بأن فكرة قيام «يوم عالمي للشعر» نبعت أساساً من رأس الشاعر عز الدين المناصرة، باعتراف الشاعر محمود درويش، الذي تبنّاها، من فوره، مع الشاعرة فدوى طوقان، وذلك كما أسرّ إلى كاتب هذه السطور، الشاعر درويش نفسه في باريس في عام 2004.
فكرة ريادية
في كل الأحوال، من المُهم جداّ أن تُسجّل للعرب هذه الفكرة الرياديّة في المحافل الثقافية الدولية، ولاسيما الشعرية منها، لا لشيء إلا لأنهم قوم الشعر في المقام الأول، قديماً وحديثاً، وبشهادة العديد من المستشرقين الأوروبيين الثقاة، الذين خوّضوا عميقاً في التراث الشعري العربي، بعثا واكتشافاً، نقداً وتقويماً، فضلاً عن اعتراف نَفَرٍ لا يستهان به من كبار شعراء هذا العالم المعاصر، أمثال: الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، والفرنسي لوي آراغون، والمكسيكي أوكتافيو باث، والأذربيجاني نبي خزري وغيرهم.. وغيرهم.
يوم عالمي للشعر؟! إذن يقتضي منّا الأمر في هذا «العيد» تجديد الدعوة إلى الدفع بالمزيد من المؤتمرات الشعرية الدولية حول العالم، والتي كانت سائدة قبل إعلان اليونيسكو الشهير بعقود، لكنها، وبفضل التكريس السنوي الدوري لـ»يوم الشعر العالمي» منذ عام 1999، ازدادت هذه المؤتمرات الشعرية الدولية على نحو طردي ملحوظ، لكنها – مع الأسف - عادت إلى الضمور في السنوات الخمس الأخيرة، كما يقول الشاعر الهندي الشاب ضياء الدين فاروق خان، الذي كنت التقيته قبل شهور في القاهرة، على هامش سفره إلى جوهانسبرغ لحضور لقاء تمهيدي، يُهيّئ للقاء شعري شبابي على مستوى القارات في دولة جنوب إفريقيا الصيف المقبل، فأسرّ لي بشيء من الحزن «إن ظاهرة هذا العرس العالمي للشعر بدأت بالانحسار منذ خمس سنوات خلت، وأنه يتطلّع مع شعراء غيره، من أوروبا والصين وأستراليا وأميركا اللاتينية إلى عودة هذا الزخم الثقافي من جديد؛ إذ عندما يلتقي شعراء من بلدان مختلفة، وبلغات مختلفة، وثقافات مختلفة، في بلد معين، فكأنما العالم كله التقى بأحلى صورة له وأبهاها. فشعراء العالم، هم ممثلو الإنسانية الحقيقيون، وهم مستقبل العالم». ويختم قائلاً «وحده هذا التنافر الإبداعي المعولم يخلق أجمل انسجام وأقواه».
هكذا، فالشعر كونيّ بطبيعته وتوجّهه، والشاعر الكبير تحتاجه أمته، تماماً كما تحتاجه سائر الأمم؛ ومن هنا نفهم صرخة الشاعر الألماني العظيم نوفاليس (1772 – 1801) بعد إصداره ديوانه الشعري الأول «تراتيل الليل»: «الآن نبتت لي أجنحة قوية تخفق وتطير في العالم كله دفعة واحدة».
عقد عالمي
وفي ضوء اليوم العالمي للشعر، نستطيع القول إن ثمة عقداً إنسانياً قائماً، ومبرم التنفيذ، بين الشاعر الكبير وذاته الإضمارية، يتولّى هو، باستمرار، ترجمة أحكامه المتوالية، هكذا بلا منّةٍ من أحد، حتى من نفسه؛ والهدف حفظ لغز الإنسان ومعناه، والدفاع عنه من جور وطغيان الإنسان نفسه. نعم، فأكبر وأخطر عدو للإنسان، هو الإنسان نفسه، على الأقل، منذ زينون، الشاعر والفيلسوف الفينيقي العظيم، الذي كان من أشهر من دعوا إلى رفض مبادئ أبيقور الأحادية اللاغية للآخرين، مكرساً، في المقابل، عُرفاً تقبّله الكثيرون، ومفاده بأن الناس كلهم، هم مواطنو هذا العالم، وفي الطليعة بينهم، الشعراء الأدِلاّء.
أجل، الشاعر هو مواطن العالم كله، من نقطة وطنه، امتداداً إلى دائرة العالم – الوطن الأوسع. إنه هويّة نفسه وهديّتها كذلك، السابحة دوماً داخل الزمان. وهذه الهويّة تنتج بالضرورة تفاعلاً دائماً، بين الثبات والتغيّر، الفعل والمثال، المحدود واللامحدود، المرئي والمغيّب، الشهادة والحلم، ما يؤدي ذلك كله إلى تكوين وعي مفتوح يتصل بالإنسان المتكلّم، والإنسان المتألم، والإنسان الأخلاقي، والإنسان صاحب مكامن الخصب في الروح، المستمر في بِدّئيته إلى ما لا نهاية.
وكم كان الفيلسوف الفرنسي بول ريكور مصيباً عندما أخضع النصوص الشعرية والروائية والأسطورية لمحكّ الهيرمينوطيقا (علم التأويل أو التفسيرية) فمكّنته من تفسير المنطق الكامن وراء النصوص الشعرية الرفيعة، معتبراً أنها، في النتيجة، إنما تفضي إلى إعطاء معنى للحياة، يتصف بالرجحان، والعظمة، والثِقل، والرزانة، أي أنها مُعادلةُ ذاتٍ ومعنىً. وهذه الذات ليست مفهوماً مجرداً، بل هي ذات منغمسة في الممارسة والفعل. يقول ريكور في كتابه «الذاكرة، التاريخ، الإنسان»: «أن أفهم ذاتي، يعني أن أقوم بالدورة الكبرى، المختصّة بالذاكرة الكبرى، التي تحتفظ بكل ما أصبح ذا دلالة بالنسبة إلى البشر جميعاً. فكل قصيدة تصبح لها كينونتها الخاصة، حياتها الخاصة، بغض النظر عن الشاعر، والظروف الأولى التي أنشأ خلالها نصه».
الدعوة إلى ثورة في قراءة الشعر مسؤولية كبرى
يوم الشعر العالمي، هو أيضاً هو يوم المسؤولية الكبرى، وخصوصاً تجاه مسألة توليد قارئ آخر للشعر، قارئ جديد غير فولكلوري أو غنائي، مدفوع من عنديّاته المدرسية التبسيطية التلقينية، وكذلك من تلك القراءة الشعبوية الموروثة، التي تغرقه وتغرقنا في المفاضلات السطحية المملة التكرار. فقراءة الشعر - في المقابل - هي ثقافة ومعرفة جديّة غير استنسابية؛ إنها بالتأكيد أكثر عمقاً وتأويلاً وتأملاً صامتاً.. تأملاً يحترم علامات وإشارات ومرموزات الصمت بيقينياتها الشعرية الأكثر نطقاً وإفصاحاً. ومن الإخلاص، بل من الحقّ علينا أن ندعو في «يوم الشعر العالمي» إلى ثورة في قراءة الشعر، وثورة أخرى في بيان نقده. ومثلما الشعر يقدّم نفسه حاملاً لرؤية، كذلك النقد أيضاً، هو حامل لرؤية مكمّلة للشعرية بتصوراتها وأسئلتها المتجاوزة. ولا غرو، فلا حديث عن رؤية شعرية من دون حديث عن رؤية نقدية تعادلها وتستوي بتجلّيّاتها. ومن هنا وجدنا بعض الشعراء العرب الكبار وقد لعب دور الناقد لمرحلته الشعرية بأكملها، في ظل تعذّر وجود الناقد الإبداعي الموازي لها. فكلاهما، الشاعر والناقد إذاً، وجهان لعملة إبداعية واحدة... أكثر من ذلك، باتت القصيدة الجديدة لا تُفهم، إلاّ متى ما صار قارئها جزءاً من طبيعة شاعرها وناقدها.
ولعلّي غير مغالٍ إذا قلت، في هذا اليوم الاحتفائي العالمي بالشعر، إن كل شاعر كبير هو مفكّر كبير، بل وسياسي كبير، لا في معنى المُنظّر للأنسنة والأنسقة المضادة، بل في المعنى الذي يُقدّم السياسة كحوار فلسفي عميق، آيته الفهم وابتكار الوعي وتكريس البعد الإنساني في كل شيء.
مقطع القول، كل شاعر كبير، هو إنسان تنويري بالضرورة؛ يُقدّم خطاباً تنويرياَ لأمته، كما لسائر أمم الأرض. ومن هنا أنا كمتلقٍ عربي للشعر (أي شعر في العالم)، أرى أن الشاعر الفرنسي سان جون بيرس مثلاً، هو شاعري أنا العربي قبل الفرنسي، أو، على الأقل، إني في موازاة ذاك القارئ الفرنسي، لا لشيْ إلاّ لأن بيرس، هو شاعر التنوير الإنساني برمته. كان يستشرف مما يعرف في المادة رموزاً ما قّدّرت لسواه، وكان ينفذ في الرؤية المباشرة إلى أصقاع إدهاشية يقصر عنها غيره. إنه شاعر الحضور الكبير، في الحاضر والمستقبل، انطلاقاً من ماضي إنسان الكهوف.. طرداً وعكساً. كيف لا وهو يؤكد على فرادة الكائن البشري وحريته وإرادته أينما كان على وجه الأرض؛ كما لا يتبع أي قطبية إيديولوجية، مضادّة ومتضادّة، مؤمّثلة ومؤبلسة، لا يتبع إلاّ خطّ نفسه مخاطباً الإنسان في كل مكان وكل زمان.
شعراء العزلة لا الانعزال
في يوم الشعر العالمي، لا بدّ من التوكيد على أن الشاعر الحقيقي، هو شاعر العزلة لا الانعزال.. العزلة المشرفة على العالم من موقع الاحتضان العظيم غير الدعيّ. من موقع الذاتية الأشد ذاتية في ابتكارها للمتخيّل العبقري الولاّد، الذي قال به الجرجاني، وقال به كولردج، وقال به الرمزيون، وهو أيضاً الخيال الذي قَصَرَ عليه السورياليون الشعر، وعمّروا بموجبه كل تجاربهم الحرّة والحيّة وذات الخرق المتزيّد لكل شيء.. والتجربة هنا غير الموضوع، فقد يكون الموضوع لامبالياً وغيرياً ولا وقع له.
شاعر العزلة هو مرآة العالم، هو مرآة التآلف بين النفس وذاتها، وبينها وبين الكون، وقد احتوته واهتضمته وأقامت منه في حالة من السكون والألق الصامت. ولذلك نجد شاعر العزلة العظيم يحاور نفسه، ويحاور الأشياء المحيطة به. هو دائماً وسواس نفسه القهري، ووسواسها الرحب، الذي لا يساوي مع العلّة الغائية، حتى ينتهي منها. إنه إذاً يتواصل بلا هوادة، ولا يتفرّق، البتة، في تواصله الإيهامي الإيحائي، وآخر ما يفعله هو تسجيل قصيدته. القصيدة التي تعتبر جزءاً يسيراً من ذاته الشعرية الصامتة الأعمق والأنفذ إبداعاً من نفسها. هكذا فالأعمق من القصيدة لدى شاعر العزلة هو اللاكتابة، هو التأمل الدفين الفسيح، يتناسق ويتآلف ليبدع البناء الكلي والنهائي للتجربة الكبرى. وليس من التمادي في شيء القول إن القصيدة، على أهميتها وعظمتها وريادة حضورها، قد تكون الشهادة التي تشوّه حالة صمت الرؤية الشعرية، أو الرؤية الشعرية الصامتة. الشاعر الحقيقي هو نزيل وحدته دائماً، ولذلك هو حضارة نفسه وحضارة العالم الآتي. إنه يضيف للعالم ما ليس فيه. إنه كامل بذاته، مستغنٍ عن غيره.
في يوم الشعر العالمي، لا بدّ لي من أن أوجّه التحية طالعةً من إهاب الروح والقلب إلى الشاعر الصديق أنسي الحاج، الذي أراه يتعامل مع رواسم الموت، كحالة حياة لا بدّ من استكمالها، إنما في مظانّ شعرية جديدة، لا تحلل ولا تعلل ولا تبرهن.