يمكنك أن تقرأ الضربة الأمريكية «لشعيرات سوريا» من زوايا متعددة، ولَك أن تركن فى زاوية أو ترتكن على أخرى، لكنك لاتختلف على حقيقتين هما أن ترامب رجل لايمكن توقعه ولايمكن ضمانه أو تصديقه، وأن ترامب ونتنياهو واحد، وأن كليهما نصف الآخر.
فى لحظة واحدة قال ترامب إن أولويته ليست نظام الأسد وضربه بالصواريخ، ولاداعى لأن أكرر أمام ناظريك عبارات افتتان ترامب بروسيا بوتين، فهو غمز للأخير بعصر من العسل وطعنه فى أول أيامه ولياليه. ربما تحتار فى تفسير تقلبات ترامب إنما فى هجمة «شعيرات سوريا» تجد نتنياهو نصف ترامب الآخر وناطقا باسم الحملة العسكرية الأمريكية الجديدة.
قال نتنياهو مفسرا القصف الصاروخى الأمريكى «لشعيرات سوريا» إنه رسالة لن يتردد صداها فى دمشق فقط بل فى طهران وبيونج يانج. فيما كان نائب ترامب يسارع بتقديم الشكر على «الدعم الذى قدمته حكومة تل أبيب للقوات الأمريكية لتنفيذ ضربتها المتقنة». وقد تعمد نصف نتنياهو الآخر فى اللحظة ذاتها دخول قاعة الاجتماعات مع الرئيس الصينى الزائر للولايات المتحدة ليبحث معه قضية بيونج يانج وملف التجارة المشتركة، على وقع التهديد بإحراق الأرض تحت أقدام بكين وموسكو معا بالضربات أحادية الجانب فى طهران وبيونج يانج، كما جرى فى سوريا.
بيونج يانج تبقى قضية الصين بالدرجة الأولى، وإن ظلت كوريا الشمالية من حلفاء روسيا وإيران وبشار الأسد. إنما مايعنينا هو الإشارة إلى دمشق وطهران، وماإذا كانت رسالة «شعيرات سوريا» تبدو إيذانا ببدء الحملة الأمريكية- الإسرائيلية على إيران انطلاقا من سوريا وأن عملية دفع طهران إلى الخلف وفك ارتباطاتها الدولية والإقليمية إنما تبدأ من الأرض السورية.
ترحيب البعض العربى وتهليل البعض الآخر بضرب «شعيرات سوريا» ليس سوى انزلاق دون حساب إلى مواجهة تشعل الصراع السنى الشيعى فى المنطقة على نطاق واسع، صراع تشكل صيرورته بالضرورة الحشود والكتل المذهبية والدينية ومجموعات العنف والإرهاب، وليس الدول المنهكة فى حروب وصراعات مع كل محيطها والجارى استنزاف بقية طاقتها فى مهلكة جديدة.
لاطاقة لعربى ولامصلحة فى إضافة حرب إلى حرب. استغاثة البعض العربى بالأمريكى أو نصفه الآخر ضد إيران، ليست سوى خطوة تضاف إلى خطوة نظام بشار الأسد فى استدعاء روسيا وإيران وحزب الله لخوض حربه فى سوريا. ولن توفر حماية مضمونة لطرف، لأمن أمريكى تنعدم فيه الثقة ويتقلب قبل تقلب الليل والنهار، ولامن روسى يقدم لك الخدمة مع عدم ضمان الحماية الكاملة. استغاثة العربى بالأجنبى لن تعنى سوى تكريس الوجود الأجنبى الدولى والإقليمى بما يشمله من توزيع لخرائط النفوذ والسيطرة داخل المنطقة العربية.
نتيجة من هذا النوع عرفها العرب جيدا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. خلقت فيهم تركيبة غنية بمصادر الصراعات والاضطرابات البينية والداخلية سياسية واجتماعية إضافة إلى أزمة مزمنه بإنشاء إسرائيل. حتى انفجرت هى بذاتها بينما بقيت إسرائيل فى موقع التحصين.
فى الطريق الآن أكثر من إسرائيل. نموذج الجزيرة المحاطة بالخصوم والأعداء يجرى تعميمه داخل المنطقة الآن. فى الطريق تركيبة إضافية أكثر فاعلية فى ضمان انفجار كل ماهو عربى مستقبلا.
يتساءلون: أين مصر؟.. يسألون: ماذا تفعل مصر؟.. أقول اسألوا الله أن يكتب لها السلامة أولا. ولو أردت أن تسمع منى أقول لك ماقد تفكر فيه مليا. أولى بمصر الآن المبادرة بتوجيه النداء من القاهرة من أجل سلام المنطقة العربية. سلام بين أهلها ولأهلها وسلام لها مع كل العالم. سلام يقتضى إخلاء المنطقة برمتها من كافة أشكال وأنواع التواجد الأجنبى الدولى والإقليمى والإسرائيلى من كل الأراضى العربية وإقامة نظام إقليمى جديد يضمن السلام والأمن بين الكيانات العربية السياسية والاجتماعية المتعددة ومع دول ومجتمعات الجوار والعالم، وأن يكون التعاون فى مكافحة الإرهاب فى المجالات السياسية والأمنية والتقنية وليس بجلب القوات الأجنبية، فتكون النتيجة كما يجرى الآن بقاء القوات الأجنبية والإرهاب واجتثاث الشعب والبلاد.
مبادرة مصرية من هذا النوع توفر إطارا لإنقاذ ماتبقى من عرب ولو نجحت مصر فى بناء موقف عربى حولها أو اقتنعت بها الأطراف العربية.. لو فرت مظلة حماية مطلوبة لنفسها ولهم كعرب.
مبادرة مصرية من هذا النوع تجسد الضمير الوطنى المصرى والعربى وتشير إلى نوعية الحل الإقليمى المطلوب والذى يضمن يضمن سلام كل الإقليم، لاذلك الحل الإقليمى الذى يسعى إلى تنفيذه نصف ترامب القابع فى تل أبيب ويروج له نصف نتنياهو القادم حديثا إلى البيت الأبيض ويضمن سلام إسرائيل وحدها دون سلام مصر وسلام الإقليم.
لم يعد يكفى لضمان سلام الإقليم أن تقيم سلاما مع على مستوى القضية الفلسطينية وحدها وإن كان مطلوبا. إنما مع أمريكا وإسرائيل على وجه الخصوص لايكفى أن تصل معه فقط لسلام لقضية من قرن مضى. كماهى القضية الفلسطينية. الأكيد أننا نحتاج لسلام حول قضايا ربما لن توفر سلاما فى المنطقة لقرون مقبلة.
عن المصري اليوم