أظنّ أنّ هذا السؤال يدور في ذهن الجميع، طالما أن الحديث عن «قُرب» التوصل إلى «صفقة» من شأنها إنهاء الحرب الهمجية، والدخول في تفاصيل وآليات تطبيق أكثر من 20 بنداً قيل إنها من بَنات أفكار دونالد ترامب بعد سلسلة متواصلة من المشاورات التي أجرتها الإدارة الأميركية في الأسابيع الأخيرة، والتي جرى عرضها، وربّما مناقشة بعض بنودها مع القيادات العربية والإسلامية التي التقت بترامب في البيت الأبيض.
لكن كيف لنا أن نعرف نتائج الاجتماع الذي سيعقد اليوم بين ترامب ونتنياهو؟ وكيف لنا أن نرى الإجابة عن سؤال: مَنْ سيُروّض مَنْ، أو بمعنى آخر: مَنْ مِنَ المفترض أن يُروّض مَنْ؟!
الجواب عن هذا السؤال بقدر ما يبدو وكأنه في غاية البساطة، بصرف النظر عن نتيجة السؤال، وطبيعة الجواب إلّا أنه يكاد يكون من أصعب المسائل على المهتمّين والباحثين والمفكّرين، إضافةً إلى السياسيين بكلّ أنواعهم، وعلى مختلف مستوياتهم.
الحقيقة أن العلاقة ما بين «الدولتين» هي واحدة من أكثر أشكال العلاقة غرابة في التاريخ المعاصر والحديث. فمن ناحية هي علاقة تابع ومتبوع في الكثير من أوجهها، بين قوة إمبراطورية، وبين دولة وظيفية لرعاية المصالح العليا للدولة الإمبريالية، ولـ»الغرب» في إقليم مهم، وحسّاس للغاية لهذه المصالح، وهي من ناحية أخرى علاقة فريدة للتابع لأنه دور خاص، فاعل، ولا يوازيه أي دور آخر لأي حليف آخر.
هذه الطبيعة الخاصة والفريدة للدور الإسرائيلي في إطار الإستراتيجية «الغربية»، والأميركية الخاصة جعلت منه دوراً خاصاً من زوايا إسرائيلية خاصة بحيث نمت وتطوّرت وتضخّمت مصالح خاصة إسرائيلية، أيضاً، وأصبح لديها طموحاتها الخاصة بحيث تحوّل الدور الوظيفي مع مرور الزمن، ومع القفزات التي شهدها الاقتصاد الإسرائيلي، وخصوصاً في مجالات عسكرية وأمنية واستخبارية، وفي مجالات علمية فائقة التقنية بما في ذلك منظومات متكاملة من اقتصادات المعرفة وإنتاج متخصص في مجالات الاتصالات، وفي صناعات على أعلى درجات الريادية الصناعية.
أي أن الدولة العبرية في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة تحوّلت بالدور الإسرائيلي من دور الأداة إلى دور الشريك.
ليس هذا فقط، وإنما تحوّل الأمر برمّته إلى وضع جديد يختلف اختلافاً جوهرياً عن كل المراحل السابقة، وذلك لأن دور الأداة أصبح يتطلب الشراكة، ودور الشراكة هو الذي يؤمّن دور الأداة.
أقصد أن معادلة مسألة الأداة والشريك دخلت في طور نوعي جديد.
أما من زاوية أميركا، وبعد أن سيطرت على زعامة العالم «الغربي»، وبعد أن أصبحت منطقة الشرق الأوسط واحدة من أهم أقاليم العالم من زوايا مخزونات الطاقة والممرّات والطرق التجارية، وبعد أن بدأت تتشكّل في الإقليم فوائض مالية هائلة بسبب الارتفاعات في أسعار النفط فقد تحوّل الأخير إلى أهم إقليم على صعيد المصالح والثروات، وإلى أكثر مناطق العالم عرضاً للتغيرات السياسية، وهو الأمر الذي أدى إلى تحول الإقليم إلى منطقة للتنافس الشديد مع الاتحاد السوفييتي طوال كامل مرحلة «الحرب الباردة».
وكان من مصلحة أميركا المباشرة المحافظة على الدور الإسرائيلي، وتلبية المصالح الإسرائيلية كأولوية مطلقة بالمقارنة مع الأولويات الأخرى. ولم يتبدّل هذا الدور في مرحلة «الأحادية القطبية»، إن لم نقل إن العكس تماماً هو الصحيح. لكن عناصر التشابك والتداخل في العلاقة ما بين أميركا والدولة العبرية لها من الأبعاد ما هو أكثر تعقيداً وبما لا يقاس.
هنا يتعلّق الأمر باللوبيات الصهيونية والإسرائيلية ذات الخبرة الواسعة في علاقات التأثير التقليدية في أميركا.. وهنا نحن نتحدث عن علاقات تأثير وفعالية هائلة سواء تعلّق الأمر بالأصوات الانتخابية أو نوعية هذه الأصوات، ذلك أن هذه اللوبيات تمتلك كل عناصر الضغط والابتزاز والتهديد في مجال المال والإعلام كمنظومات تنشط بهياكلها المنتشرة والمتغلغلة على قدرات واسعة من التحكّم والسيطرة. ويكفي بهذا الصدد أن نشير إلى الأرقام والإحصاءات.
العدد الإجمالي لليهود في أميركا يتراوح ما بين 5-6 ملايين نسمة، وإذا ما افترضنا أن هذه النسبة تنعكس في شغل المراتب والمناصب ومراكز القرار والتأثير سنجد أن عددهم يصبح أكثر من 30 مليون نسمة بالمقارنة مع هذا الإشغال.
هذا ناهيكم عن أن التأثير المباشر يتركّز على مجلسي «الشيوخ» و»النوّاب»، و»الرئاسة»، ووزارات الخارجية والحرب والدوائر الحسّاسة، هذا إضافة إلى الجامعات العريقة ومراكز الأبحاث والدراسات التي تمثّل مصادر مباشرة لصنع القرار في أميركا.
هذا يعني أن العامل الصهيوني والإسرائيلي تحوّل مع الوقت، وفي سياق التطوّرات التي شهدتها كل مكوّنات وأطراف هذه العلاقة إلى عامل داخلي أميركي، وهو الحالة الاستثنائية الوحيدة في سياق وجود وتأثير وفعاليات اللوبيات الفاعلة في أميركا، وبعد أن تسلّقت القوى القومجية الدينية في دولة الاحتلال وبعد أن صعدت «الترامبية» كـ»يمين عنصري متطرّف» دخلت العوامل الفكرية الأيديولوجية على خطّ التشابك، في حين أن قبل هذا الصعود كان هذا العامل أقرب إلى مشتركات من «القيم» السياسية.
وهكذا فإن التداخل والتشابك أعقد بكثير من مراوغات اللحظة السياسية، ومن الاعتبارات العابرة والمؤقّتة.
ترامب يتعاطف مع نتنياهو ولكنه يحرص أكثر على الكيان الصهيوني، وعلى دوره ومكانته في إقليم لا يتحمّل المزيد من المغامرات، ولا يتحمّل أي مقامرات عند الحسابات الدقيقة.
الإدارة الأميركية لا تقيم وزناً حقيقياً للضغوط العربية والإسلامية على ترامب لسبب بسيط، وهو أن لا وجود لها، وهي إن وردت، فهي ترد على شكل تمنّيات ليس إلّا، ولهذا فإن ترامب هو الذي سيُروّض نتنياهو لقبول التوقّف عند هذه النقطة، لسبب معروف، وهو أن كل «انتصار» تكتيكي جديد يسعى الأخير لتحقيقه ليس سوى خسارات جديدة سيصعب تعويضها مع مرور الوقت الذي تجاوز الحدود، واستنفد كل الفرص.
وهذه هي المرّة الأولى التي تشعر فيها أميركا بأن تخليص الكيان الصهيوني من نفسه بات يستدعي تكسير الدوائر التي رسمها نتنياهو للدخول في مرحلة العزلة «الإسبارطية»، لأن الأخيرة هي «مصلحة» إسرائيلية تتنافى، وبصورة مباشرة ومطلقة مع تشابك علاقات أميركا في العالم ومع دول الإقليم.
أقصد أن أميركا هي نفسها، ليس بسبب وجود ضغوط عربية وإسلامية عليها، وإنما بسبب تشابك مصالحها الخاصة مع مقدرات الإقليم لا يمكن لها أن تذهب في مغامراتها «الترامبية» إلى حدّ «الإسبارطية» الإسرائيلية.
بالمقابل لا يمكن لأميركا أن تتخلى عن نتنياهو تتركه يسقط بسهولة لأن مثل هذا الموقف لم يعد يتعلّق بشخصه أو حزبه، أو الائتلاف الذي يقوده بقدر ما بات في ظل معرفة وإدراك الإدارة الأميركية للاستعصاءات التناحرية التي تحكم آليات الصراع الداخلي، يشكله مثل هذا التخلي من خطر قد يطيح بكامل ما تراكم حتى الآن من «إنجازات» تكتيكية مهمة.
أقصد، أن أميركا بعد أن أعطت نتنياهو كل شيء، ولم يتبق لديها ما تعطيه أكثر أصبحت مطالبة لاعتبارات داخلية، وكذلك لاعتبارات دولية ماثلة أمامها للعيان، وتتجلّى على الأرض في صورة فشل متراكم على الصُعد الميدانية، وفشل جديد في بعض العمليات الأمنية ــ كما جرى في الدوحة ــ وفشل في وقف الهجمات «الحوثية» المستمرة على دولة الاحتلال، وبعد العزلة السياسية الخانقة التي تعيشها دولة الاحتلال، وإلى حد ما بدأت تلقي بظلالها على الوضع الأميركي نفسه، في ظل كل ذلك فإن ترامب سيحاول أن يروّض نتنياهو بالإبقاء على طوق نجاة متضمّناً في آليات تطبيق بنود عدة من «الاتفاق» المزعوم.
نقاط ضغط نتنياهو على ترامب لترويضه لم تعد قائمة، ولم تعد هذه النقاط في يد نتنياهو، لا على مستوى الورقة الانتخابية، ولا على مستوى الضغط الذي يمارسه، أو كان نتنياهو قادراً على أن يمارسه على مجلسي «النوّاب» و»الشيوخ»، بعد أن شهدنا انتقالات، وانحيازات، وانزياحات جديدة كبيرة داخل الحزبين «الديمقراطي» و»الجمهوري» نفسه.
ترامب ليس أوباما، وليس بايدن، لا في شخصيته، ولا في رؤيته، ولا في تطلّعاته، ولا حتى في انضباطه للمؤسّسات الدستورية. فإذا كانت الإدارة «الترامبية» قد وصلت إلى قناعة بأن دولة الاحتلال قد وصلت إلى أقصى درجات استنفاد الفرصة التي أتاحتها الإدارة لها فالاتفاق أصبح ممكناً وضرورياً ونافذاً، بأقل خسائر إسرائيلية ممكنة.
نتنياهو فقد أوراق قوّته، والأوراق الأقوى باتت في يد ترامب، ويبدو أن «المعارضة» الإسرائيلية قد حسمت أمرها بهذا الاتجاه، ولم يتبقّ سوى الانزياحات الكبيرة من قبل قاعدة نتنياهو الانتخابية إلى هذا المشروع، ويبدو أنها في الطريق إلى ذلك.
وإذا أردنا الحقيقة فإن دولة الاحتلال ليس لديها مشكلة حقيقية بالموافقة على الاتفاق حتى ولو أخضعت بعرض البنود للابتزاز من جديد، في حين سيكون الأصعب على حركة حماس أن ترفض الاتفاق طالما أنه ينصّ على وقف الحرب العدوانية، والانسحاب الإسرائيلي، إلّا أن هناك عدة بنود ملغومة ستتمكّن دولة الاحتلال من النفاذ من خلالها لإعادة الحرب العدوانية، وخصوصاً بند «التهديد»، لأن هذا البند سيبقي المبادرة في يد جيش الاحتلال.
وهذه النقطة هي الوحيدة التي يحتاجها نتنياهو لمنع الانهيار المباشر لائتلافه الفاشي.
"أكسيوس": ترامب قد ينقلب على نتنياهو إذا رفض خطته
29 سبتمبر 2025