أحمد دحبور: جيل الذبيحة ..

20490171602821758144.jpg
حجم الخط
 
غادرنا أحمد دحبور ولم تطاردني أسئلته التي تبدو أنها ستلازمني لفترة من الوقت.
غادرنا الشاعر الذي انتمى إلى جيل الذبيحة، وقد جعل منه عنواناً لإحدى مجموعاته الشعرية المتأخرة (1999) التي صدرت عن دار الفارس/ المؤسسة العربية في بيروت وعمّان، ولم تحظ بطبعة ثانية، أو بطبعة خاصة بالأرض المحتلة، علماً بأن صاحبها من أبرز شعراء الثورة الفلسطينية، ومن أبرز الوجوه الشعرية والثقافية في فلسطين منذ عودته هو شخصياً إلى مناطق السلطة الوطنية التي كان يخصها بتعبير «الجزء المتاح لنا من الوطن».
مؤخراً أعاد اتحاد الكتّاب الفلسطينيين في رام الله طباعة الأعمال الكاملة للشاعر، وكانت صدرت طبعة أعمال كاملة في العام 1983 أضاف إليها أحمد دحبور خمس مجموعات أخرى وقصائد ربما حملت اسماً لمجموعة سادسة.
 
ومع ما سبق فإن مجموعة واحدة فقط للشاعر صدرت ثانية، في عكا، ولم تحظَ مجموعتاه الأخيرتان «جيل الذبيحة» (1999) و»كشيء لا لزوم له» (2004) بتلقٍ نقدي في صحفنا، وأظنهما أيضاً لم تحظيا بتلقٍ نقدي في العالم العربي، على الرغم من أن الشاعر خصّ مئات الكتّاب بمقالات نقدية طويلة كان ينشرها تحت عنوانين «عيد الأربعاء» و»دمعة الأربعاء».
 
ينهي أحمد قصيدته «انقطاع الكهرباء» التي صدرها ببيت شعر لمالك بن الريب بالسطر التالي: «سألت كتابي عن صحابي،/ أجابني غرابي:/ تقدم.. إن جيلك يبتعد/ تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد». (1997) كما لو أنه مالك بن الريب القائل: «تذكرت من يبكي عليّ، فلم أجد/ سوى السيف والرمح الرديني باكيا».
 
نعم كما لو أنه مالك بن الريب، وكما لو أنه كان يُعبّر عن إدراك عميق يعتمل في عقله يتمثل في إقصاء الآخرين نقدياً له، مع أن القصيدة ترد الأمر إلى انقطاع الكهرباء في غزة.
«كنت المنادَى، ربما والمناديا
تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد
سواي، على جيل الذبيحة، باكيا».
في الأيام التي تلت رحيل الشاعر بدأت أسئلة عديدة، بخصوص تجربته، تلحّ عليّ. فجأة وجدتني أربط بين قصائده في حيفا وقصيدة تميم البرغوثي «في القدس».
 
لماذا ذاعت قصيدة تميم ولم تذع قصائد أحمد وتشتهر، وكلا الشاعرين صدر في كتابته عن تجربة معيشة؟ ولن أفكر في إجابة نهائية، وأعادني الربط والكتابة عن حيفا والقدس إلى رأي مريد البرغوثي في قصيدة ابنه تميم.
لم يكتب تميم عن القدس قبل زيارتها، ولما زارها كتب القصيدة التي أشهرته.
رأى مريد البرغوثي أن قصيدة تميم تكاد تكون أشهر قصيدة في القدس، وقال: إن تميم كتبها بعد أن رأى القدس بعينيه هو، لا بعينيّ أنا. ولطالما حدث مريد ابنه عن فلسطين، عن رام الله ودير غسانة والقدس. ولم تكن علاقة أحمد دحبور بحيفا، مدينته، لتختلف عن علاقة تميم بالقدس ودير غسانة ورام الله إلاّ قليلا.
 
ولد أحمد دحبور في حيفا في 21/4/1946 ـ توفي في 8/4/2017 ـ وغادر حيفا في العام 1948، وظلت أمه، في المنفى، تحدثه عن المدينة التي أتى عليها في تصديره لأعماله الكاملة (1983) وفي بعض قصائده التي كتبها قبل العام 1994، عام زيارته حيفا. ولما زارها كتب عنها قصائد تعبر عن ألم وحسرة.
لقد رآها الآن بعينيه هو، لا بعينيّ أمّه. أدرك أنه وصلها، ولكنه لم يعد إليها: «حيفا أهذي هي؟/ أم قرينة تغار من عينيها؟/ لعلها مأخوذة بحسرتي،/ حسرتها عليّ أم يا حسرتي عليها؟/ وصلتها ولم أعد إليها/ وصلتها ولم أعد إليها/ وصلتها ولم أعد ....».
 
سؤال الشيوع والانتشار هذا ينسحب أيضاً على أشعار أحمد الأولى والأخيرة. يفتخر الشاعر بأنه، في العام 1983، كان أصغر شاعر عربي تصدر له أعمال كاملة ولا أدري لِمَ لَمْ يخطر بباله أن يسأل أيضاً: لماذا صدرت أعمالي المبكرة معاً ولم تعد طباعتها، بل ولماذا لم تصدر طبعة كاملة لأعمالي حتى العام 2004 تاريخ إصدار آخر دواوينه؟ (ستصدر طبعة مؤخراً في رام الله، لا عن دار نشر عربية، كما هي حال الطبعة الأولى).
 
هل يعود السبب إلى تراجع الاهتمام بالشعر أم أنه يعود إلى أن أحمد وجيله كانوا ضحايا لشعر محمود درويش؟ أم يعود السبب إلى سبب يخص شعر الشاعر نفسه؟ إنها أسئلة تراودني حقاً ـ قد أكون مصيباً وقد أكون مخطئاً ـ وربما يعود السبب إلى الأسباب العديدة الواردة في الأسئلة الثلاثة.
وأنا أقرأ في دواوين الشاعر الأخيرة لاحظت نزعة التجريب الواضحة لديها، ولاحظت أن النزعة الغنائية والإيقاع الغنائي اللذين برزا في أشعاره الأولى وفي قصائد لاحقة عبر فيها عن تجربة معيشة، ومنها قصائد حيفا، تكاد تغيب عن كثير من قصائد «كسور عشرية» و»جيل الذبيحة» و «كشيء لا لزوم له».
 
وكثير من هذه القصائد أنجز بعد أن تراجع الشاعر في الشاعر ليتقدم فيه القارئ والناقد وكاتب المقالة الأسبوعية، وأظنني كتبت هذا في مقالة نشرتها في جريدة الأيام تحت عنوان «أحمد دحبور: هل يهدم القصيدة أم يبنيها؟» (13/6/2000) وأعيد نشرها في جريدة الاتحاد الحيفاوية في (16/6/2000).
أعادتني أشعار أحمد التي خفت فيها الإيقاع إلى جدارية محمود درويش، وإلى بعض أسطرها: «خضراء أرض قصيدتي خضراء/ يحملها الغنائيون من زمن إلى زمن كما هي في/ خصوبتها» و «كأن الأرض ضيقة على/ المرضى الغنائيين، أحفاد الشياطين/ المساكين» و»تركت الباب مفتوحاً/ لأندلس الغنائيين»، بل وإلى ديوانه: «لا تعتذر عمّا فعلت» حيث يكمل الإيقاع دورته ويشرق بي» و.. و.. ولم تغادرني الأسئلة الخاصة بشعر أحمد دحبور.