عدم اليقين، هو بكل أسف، الإجابة التى تكاد تكون الوحيدة الدقيقة لعالم أضحى مفعماً بالصراعات والتناقضات والتحولات السريعة والجذرية فى المواقف، خصوصاً فى وجود رئيس أمريكى وصفته إحدى أهم صحف بلاده «نيويورك تايمز» بأنه رئيس «لا يتقيد بمبدأ» استطاع أن يؤكد بتصرفاته فى السياسة الخارجية من الشرق الأوسط (سوريا) إلى الشرق الأقصى (كوريا الشمالية) أن «لا شيء مؤكدا على وجه اليقين فى السياسة الخارجية الأمريكية». والنتيجة أن العالم أضحى مهدداً بالانزلاق إلى «حافة الهاوية» التى يمكن أن تتسبب فى صدام عسكرى مباشر بين الولايات المتحدة وروسيا فى سوريا، أو بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية فى الشرق الأقصي.
هل العالم يتجه إلى حرب باردة للمرة الثانية، هل سيسعى ترامب إلى التحالف مع الصين لكسب مواجهة مع روسيا؟ وهل يمكن أن تكون سوريا ساحة لمواجهة جديدة أمريكية روسية؟ فعندما يصل التوتر بين البلدين إلى أن تضغط أمريكا على روسيا كى تقبل بإسقاط حليفها «بشار الأسد» وأن تطرد إيران من سوريا وأن يقع الرئيس ترامب فى سقطة الخروج عن الأعراف الدبلوماسية ويصف الرئيس السورى بأنه «حيوان»، وفى المقابل يجد وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف نفسه متورطاً فى سب الصحفيين الأمريكيين المصاحبين لوزير الخارجية الأمريكى فى زيارته موسكو (12/4/2017) ويخاطبهم «من علمكم الأدب؟» اعتراضاً منه على صياحهم الصاخب فى أثناء مؤتمره الصحفى مع نظيره الأمريكي.
أجواء الحرب الباردة هى السائدة الآن بين روسيا والولايات المتحدة خصوصاً بعد النتائج المحدودة لزيارة وزير الخارجية الأمريكى ريكس تيلرسون لموسكو ولجوء روسيا، للمرة السادسة على التوالى لاستخدام الفيتو فى مجلس الأمن لإسقاط مشروع أمريكى بريطانى فرنسى ضد سوريا، وفى ظل تحول أمريكى شديد فى الموقف من الرئيس السوري، والإصرار على إنهاء دوره السياسي. بعد أن كانت الإدارة الأمريكية تعتبر الإطاحة به ليست أولوية أمريكية، هذه الأجواء تتدعم بتدخل أطراف دولية (خاصة بريطانيا وفرنسا) وأخرى إقليمية (إسرائيل وتركيا) وثالثة عربية تؤيد وتساند هذا التحول الأمريكى وتحفز البيت الأبيض لمزيد من التورط العسكرى فى سوريا ومنع روسيا من فرض مشروعها السياسي.
هذه التطورات كان لها مردودها السلبى على الطرف الآخر الروسي، فالعدوان الأمريكى الصاروخى على قاعدة «الشعيرات» الجوية العسكرية فى سوريا انتقاما من النظام السورى المتهم أمريكيا بارتكاب جريمة الاعتداء بالأسلحة الكيميائية ضد مدينة «خان شيخون» أدى بأطراف التحالف الثلاثى «روسيا وإيران والنظام السوري» إلى إصدار بيان ساخن شديد اللهجة عبر «غرفة العمليات المشتركة» اتهم الولايات المتحدة بأنها تجاوزت «الخطوط الحمراء» وقال: «سنواجهها بكل قوة.. ولو بلغ ما بلغ». كما دفع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إلى التحذير من وجود مخطط لافتعال أسباب بتجديد الاعتداءات على سوريا.
ففى مؤتمر صحفى مع نظيره الإيطالى سيرجيو ماتاريلا فى موسكو (11/4/2017) كان بوتين حريصاً على إعلان وتأكيد أمرين؛ أولهما، أن بلاده متمسكة بمصالحها وخططها المسبقة فى سوريا، وثانيهما، امتلاكه معلومات تفيد بأنه «يجرى التخطيط لاستفزازات جديدة فى سوريا» بهدف تحميل دمشق مسئولية أسلحة كيميائية،
بوتين لم يكتف بذلك لكنه دعا إلى إجراء «تحقيق شامل فى الاستخدام المزعوم للأسلحة الكيميائية» من جانب النظام السورى بغية الوصول إلى «قرارات متوازنة تقوم على نتيجة التحقيق»، ورأى أن الضربات الأمريكية الأخيرة على سوريا تذكر بهجومها على العراق فى عام 2003، مؤكداً أن «التدخل، حينها، أدى إلى تدمير العراق وظهور تنظيم «داعش». والشيء نفسه يحدث الآن». كما كان حريصاً على أن يقول إن «الدول الأوروبية تسعى من خلال دعمها (للضربات الأمريكية ضد سوريا) إلى إقامة علاقات ودية مع إدارة دونالد ترامب، عقب المواقف المعادية له خلال حملته الانتخابية». وقبيل وصول وزير الخارجية الأمريكى ريكس تيلرسون ولقائه مع الرئيس بوتين ووزير خارجيته سيرجى لافروف الأربعاء الماضى (12/4/2017) شدد الكرملين على رفض موسكو فكرة «التخلى عن الرئيس الأسد» التى اعتبرها الناطق باسمه ديمترى بيسكوف «قصيرة النظر وسخيفة» . هذا التشدد الروسى لم يأت من فراغ، فروسيا كانت تتابع التصعيد على الطرف الآخر الأمريكى والشركاء فى التحالف الآخذ فى التشكل ضد روسيا والذى كانت نواته الاجتماع الذى ضم وزراء خارجية مجموعة «الدول السبع (الكبري) مع تركيا والسعودية والإمارات وقطر والأردن» فى مدينة «كوتا» الإيطالية ، الذى صدر عنه عرض إغرائى لروسيا حمل اسم «العرض الدولي- العربي» وتضمن تخفيف العقوبات على روسيا وإعادتها إلى «مجموعة الدول الثمانى الكبري»، مقابل موافقتها على إطلاق عملية سياسية تفضى إلى «انتهاء حكم عائلة الأسد». أدركت روسيا بمتابعتها هذا الاجتماع أن الدعم الذى تحصل عليه واشنطن من جراء تصعيدها الجديد ضد روسيا وبشار الأسد «لم يقتصر على دفع فاتورة صواريخ التوما هوك الـ 59 التى ضربت قاعدة الشعيرات، بل يبدو أنه شمل الدعم لما هو آت» من عمليات عسكرية قد تتجاوز سوريا ربما إلى اليمن ضمن مساعى هذه الأطراف لدفع واشنطن إلى التورط فى عمليات عسكرية ممتدة».
السؤال المهم الآن هو: ماذا بعد؟ ماذا بعد فشل زيارة وزير الخارجية الأمريكية لموسكو، واستخدام موسكو الفيتو فى مجلس الأمن، واجتماع وزراء خارجية روسيا وإيران وسوريا فى موسكو يوم الجمعة الماضى (14/4/2017) الذين أكدوا أن الاعتداء الأمريكى الصاروخى ضد سوريا كان هدفه «إفشال العملية السياسية والقرارات الدولية»، ونفوا اتهام النظام السورى بارتكاب جريمة الاعتداء بالأسلحة الكيميائية على «خان شيخون» وطالبوا بتحقيق «دولى محايد ومتوازن تحت إشراف الوكالة الدولية لحظر انتشار الأسلحة الكيميائية» للوصول إلى حقيقة من استخدم ومن يستخدم الآن أسلحة كيميائية فى سوريا.
الإجابة حتما ستأتى على ضوء فرص نجاح أو فشل اجتماع أطراف التسوية السياسية للأزمة السورية المقبل فى آستانة ومن بعده اجتماع جنيف، عندها ستتكشف الحقائق حول ماذا تريد واشنطن الحرب أم السلام؟.
عن الاهرام