لم تهدأ لغة التصعيد والتوعد بالحرب بين الولايات المتحدة الأميركية وكوريا الشمالية، على خلفية التجارب النووية والصاروخية التي أجرتها بيونغ يانغ، واستعدادات الأخيرة للذهاب نحو شن ضربة وقائية استباقية على أهداف تابعة لواشنطن، والجاهزية لحرب تقليدية ونووية.
لغة التهديد هذه لم تتوقف بين واشنطن وبيونغ يانغ، خصوصاً بعد أن أقرت الأخيرة في شهر تشرين الثاني 2002 امتلاكها لبرنامج نووي سري، تبعه في العام 2006 الإعلان عن تجربتها النووية الأولى، أتبعه فرض عقوبات اقتصادية أميركية ودولية عليها، وملاحقتها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
الموضوع لا يتعلق بالولايات المتحدة الأميركية وكوريا الشمالية فقط، بل يتجاوز هذا الإطار إلى مدى أوسع يتضمن عدداً من الدول الكبرى والإقليمية التي كانت فيما سبق جزءاً أساسياً من الحرب في شبه الجزيرة الكورية مطلع خمسينيات القرن الماضي.
أساس التصعيد يكمن في أن واشنطن لا تريد لدولة مثل كورية الشمالية أن تهدد مصالحها الاستراتيجية ومصالح حلفائها في المنطقة، اليابان وكوريا الجنوبية، وفي المقابل ترى بيونغ يانغ أن من حقها تعظيم قوتها العسكرية، إلى جانب أنها في الموقع الجيواستراتيجي قريبة من روسيا والصين.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقبل وصوله السلطة، أطلق العديد من التصريحات شديدة اللهجة ضد كوريا الشمالية، تستهدف التصدي لها وحماية الحلفاء الاستراتيجيين، وبعد الوصول إلى سلم الرئاسة ظل ترامب يسير على نفس النغمة إزاء بيونغ يانغ.
حين زار رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي ترامب، أطلقت كوريا الشمالية تجربتها الصاروخية الأولى في عهد الثاني، وحينها جدد الرئيس الأميركي تصريحاته بالتأكيد على وقوفه بنسبة 100% إلى جانب حلفائه التقليديين والمهمين في شمال شرقي آسيا.
التجربة الكورية الشمالية كانت رسالة قوية لواشنطن وحلفائها، بأن بيونغ يانغ ماضية في تجاربها النووية والصاروخية، وحيث أطلقت عام 2016 حوالي 24 صاروخاً باليستياً ما بين قصير ومتوسط المدى، فضلاً عن إجراء خمس تجارب نووية، من بينها تجربتين أطلقتا عام 2016.
الإدارة الأميركية أبدت اهتماماً كبيراً للحليفتين اليابان وكوريا الجنوبية، اللتين استنجدتا بواشنطن من أجل ثني بيونغ يانغ عن إطلاق الصواريخ والاستفزاز العسكري تجاهها، وفي شهر شباط الماضي زار وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس كلاً من طوكيو وسيول، تبعها زيارة أخرى للعاصمتين في شهر آذار 2017، من قبل وزير الخارجية ريكس تيلرسون.
تخلل ذلك إجراء تدريبات عسكرية مشتركة بين واشنطن وسيول في شهر آذار الماضي، وسط تداول للمعلومات عن احتمال قيام واشنطن بتوجيه ضربة استباقية للمواقع النووية الكورية الشمالية، أو قيام القوات الخاصة بعملية تستهدف القيادة الكورية الشمالية، وهو ما اعتبرته الأخيرة تصعيداً خطيراً، مهددةً بالرد القوي والحازم والاستعداد لتوجيه ضربات استباقية ضد الولايات المتحدة وقواعدها العسكرية في كوريا الجنوبية واليابان وعبر المحيط الهادي.
طوكيو عبّرت في أكثر من مناسبة عن قلقها من تجارب الصواريخ الكورية الشمالية، وكذلك الحال بالنسبة للجارة سيول، خصوصاً وأن بيونغ يانغ كانت قد أطلقت أربعة صواريخ ما بين متوسطة وبعيدة المدى، سقطت ثلاثة منها الشهر الفائت في المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان، التي تبعد عن طوكيو حوالي 350 كيلومتراً.
حينها قيل إن كوريا الشمالية كانت ترد على العمليات العسكرية المشتركة للثنائي واشنطن وسيول، للتأكيد على أنها لا تخاف لغة التهديدات وأنها قد تقبل على مرحلة جديدة من العلاقات الدولية عنوانها الفعل العسكري.
نائب الرئيس الأميركي مايك بنس الذي زار اليابان وكوريا الجنوبية مؤخراً، قال إن بلاده وحلفائها لن يسمحوا لكوريا الشمالية بمواصلة سلوكها الاستفزازي. تبع هذا الحديث موجة أخرى من التصريحات الأميركية التي لفتت إلى أن سياسة "الصبر الاستراتيجي" التي كانت تتبعها إدارة باراك أوباما قد انتهت، وأن الخيارات الأميركية مفتوحة على التصعيد ومطروحة على الطاولة، في إشارة إلى الخيار العسكري.
ولم تتوقف واشنطن عن إرسال قطعها العسكرية البحرية إلى شبه الجزيرة الكورية، غير أنها هذه المرة أرسلت مدمرتين قاذفتين للصواريخ وطراد قاذف للصواريخ، من بينها حاملة الطائرات "كارل فينسون" وأسطولها الجوي التي تشق طريقها إلى شبه الجزيرة الكورية للضغط على كوريا الشمالية من أجل وقف استفزازاتها والتلويح بالتجارب النووية والصاروخية.
ثمة ما أشيع عن أن الأسطول البحري الأميركي يحمل أسلحة نووية، غير أن بيونغ يانغ لم تكترث لهذا الخبر، بل رفعت منسوب التحدي إلى حد التوعد بشن ضربات تستهدف ذلك الأسطول المتجه إلى شبه الجزيرة الكورية.
يدرك الجميع بطبيعة الحال أن الحديث عن حرب نووية أو تقليدية هو بداية لخسارة فادحة لا يمكن تحملها، ذلك أن تاريخ الحرب في شبه الجزيرة الكورية شاهد على مرحلة توقفت عند "لا غالب ولا مغلوب"، وهذه المعادلة قد تتكرر في حال وقعت الحرب فعلاً بين واشنطن وبيونغ يانغ.
على أن التصعيد هذا يبدو أنه محاولة للضغط من جانب كل طرف لتحقيق مصالحه الخاصة، إذ في حين ترسل واشنطن جزءاً من قوتها العسكرية إلى شبه الجزيرة الكورية، فإنها لم تغلق خيار الوساطة الذي تقوم به كل من الصين أساساً وروسيا مع كوريا الشمالية. وكذلك الحال بالنسبة لبيونغ يانغ التي ترى في عنادها مصلحة لتخفيف العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة وحلفائها عليها.
كوريا الشمالية أعلنت عن خمس تجارب نووية منذ العام 2006 إلى يومنا هذا، وأطلقت عشرات الصواريخ قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، وتعكف على إطلاق صاروخ عابر للقارات يتجاوز مداه 5 آلاف كيلومتر، ومع ذلك أقصى ما فعلته واشنطن هو الذهاب إلى مجلس الأمن وتغليظ العقوبات على بيونغ يانغ.
هذا هو طبع التفاعل الدولي بين الدول الكبرى والإقليمية التي تمتلك قوة تعكس مقولة عندنا "الطلق اللي ما يصيب يدوش"، وبالتالي فإن التعامل في مثل هذه الموضوعات يتعلق بسياسة الشد والرخي، وهي سياسة لم تسقط عن بال الطرفين الأميركي والكوري الشمالي، خصوصاً وأن تكاليف الحرب باهظة على الجميع.