من الطبيعي أن تحاول القوى الوطنية، وأن تحاول النخب الفلسطينية تلمّس المحاكمات الأولية لهذه الحرب، وأن تقيّم ما جرى خلالها، وما زال يجري، وأن تنصبّ كلّ الجهود لرؤية ما أدّت إليه، وما كانت، وما زالت تؤدي إليه. من المؤيّدين ومن الرافضين على حدّ سواء.
ومن الطبيعي، أيضاً، أن تتشكّل قناعات معيّنة في سياق هذه الحرب، وأن تتبلور استنتاجات مبكّرة وأوّلية حول أسبابها، وحول المقدمات التي تؤسس للاستنتاجات الكبيرة حيالها، وحول ما مثّلته، وما يمكن أن تمثّله هذه الحرب من معالم، ومن سمات، ومن مؤشّرات على طبيعة المرحلة التي أسّست لها. كلّ هذا طبيعي.
لكن من غير المؤكّد أن يكون لكل هذه المحاولات حظ وافر من موضوعية المحاكمة والتقييم، ومن دقّة الاستنتاجات والمحصّلات، ومن رصانة القراءة والاستخلاصات، طالما أن هذه الحرب لم تكن قد توقّفت، وطالما أن منع استمرارها بالوتائر التي كانت تدور فيها لم تكن قد نضجت بعد، وطالما أن العودة إليها بنفس هذه الوتائر أو أعلى منها لم يكن قد حان قطع الطريق عليها، أو طالما أن العودة إليها أصبحت أعلى كلفة على دولة من كلفتها الباهظة عليها حتى الآن السؤال الأوّل في المحاكمة التي أصبحت ــ كما أرى ــ ممكنة ومشروعة وضرورية، أيضاً، هو سؤال شرعية المبادرة إليها من قبل حركة حماس من ثلاث زوايا على الأقلّ:
الأولى: من زاوية فيما إذا كان من «حق» فصيل بعينه، مهما كان شأنه في المكانة والدور، وحتى التأثير أن يبادر بمثل هذه الحرب دون الرجوع إلى باقي المكوّنات الوطنية، بما فيها أقرب المقرّبين من هذه الحركة؟!
والثانية: من زاوية إذا ما كانت مبادرة كهذه تنطوي على مغامرة كبيرة، وغير محسوبة من شأنها أن تؤدي إلى «كارثة إنسانية»! وإلى «نكبة» وطنية جديدة، في ظل ما كانت دولة الاحتلال «تنتظره» من فرصة مواتية لحسم الصراع بصورة نهائية، وإعداد الميدان بالكامل لمشروع وخطط تصفية القضية الوطنية من كلّ جوانبها؟
وأما الثالثة: فهي فيما إذا كانت حسابات ورهانات «حماس» قد أتت على خلفية قراءات مغلوطة على مستويات متعدّدة ومتشعّبة بدءاً من «محور المقاومة»، ومروراً بالواقع العربي والدولي، وانتهاءً بالواقع الإسرائيلي نفسه، وما كانت تعانيه، وتمرّ به دولة الاحتلال من أزمات عصفت بمجتمعها على خلفيات داخلية حسّاسة كـ»الانقلاب القضائي»، أو غيره من الأزمات الجوهرية حول طبيعة الدولة ونظام الحكم، وحول دور الدين والمتدينين فيها.
وفي ثنايا هذه الزوايا الثلاث أُخذ على «حماس» أنها لم تلحظ قدرة المجتمع الفلسطيني على الصمود في القطاع تحديداً، بعد أكثر من 17 عاماً من الحصار (عندما بدأت الحرب)، وبعدما تعرض له القطاع علاوة على كل ذلك من خمس حروب متواصلة ومدمّرة تعرّض لها القطاع، إضافة إلى الضعف الكبير في الحالة الوطنية، وخصوصاً ما أفرزه «الانقسام» الفلسطيني، وما أدى إليه من تصدّع وتهتّك وهشاشة في العلاقات الوطنية، وما انعكس به على التماسك الوطني والاجتماعي كلّه.
وفي خلاصة للزوايا الثلاث أخُذ على «حماس»، وعلى فصائل المقاومة في غزة أن من شأن خوض الحرب بهذه الضراوة أن يؤدي إلى كسر معادلة البقاء والصمود الوطني على الأرض الفلسطينية، باعتبارهما حجر الزاوية في المعركة الوطنية، خصوصاً أن دولة الاحتلال قد استلّت مخطّطات التهجير بعد «طوفان الأقصى»، ووضعتها على جدول الأعمال المباشر لهذه الحرب.
استندت هذه الأطروحات في مواقفها، ونهلت كلها بصرف النظر عن الاعتبارات المختلفة لها من (بئر) واحدة، وهي الحجم الهائل من الدمار والقتل والتوحُّش الإسرائيلي، و»اطمأنّت» إلى «حدسها» السياسي الخاص عندما رأت عشرات آلاف القتلى والجرحى من المدنيين الفلسطينيين، وعندما رأت الحجم الهائل من الدعم الأميركي و»الغربي» لهذه الحرب الإجرامية، وإلى هذا القدر الصادم من العجز العربي، ومن التخاذل الذي فاق كل التوقعات، ومن النفاق الدولي الرسمي كلّه، والازدواجية الفاضحة في المعايير التي شهدها العالم كلّه، تماماً كما «اطمأنّ» أصحاب هذه الرؤى إلى صحة مواقفهم وهم يتابعون بعض النجاحات العسكرية التكتيكية في جبهات القتال، وبعض الإنجازات المبهرة في العمليات الأمنية الإسرائيلية.
هذه بإنصاف كل الآراء التي طرحت في محاكمات مبكّرة، وفي تقييمات تكاد تكون مسبقة الصنع، متعجّلة وأحياناً متهوّرة.
تبشّر بهزيمة ساحقة ماحقة، وبعضها «تستبشر» بنهاية المقاومة في القطاع، في حين ميّزنا، ونحن يجب أن نميّز بين من كانت الاعتبارات الوطنية الحريصة هي التي أوصلتهم إلى مثل هذه «القناعات» أو التوقعات، وبين من كانت الاعتبارات الضيّقة والخاصة، والمصالح الذاتية والفئوية هي من أودت بهم إلى هذه الرؤى، وهذه القراءات.
وإلى أن وضعت الحرب أوزارها، وانقشع ضباب هذه الحرب فإن على هؤلاء، كل هؤلاء أن يراجعوا، وأن يتراجعوا إذا لزم الأمر، لأن الاستمرار بهذا النهج، والاستناد إلى مثل هذا الفهم لم يعد مفهوماً على الإطلاق، ولم تعد مقولة «التمس لأخيك عذراً» تفيدنا في شيء، إن لم نقل إنها تتحوّل في حالة استمرار هذا «العناد» السياسي إلى ما هو أسوأ بكثير من سوء التقدير، وإلى ما هو أبعد من مجرّد القصور في قراءة معادلات الصراع، وإلى ما هو أخطر من مجرّد العجز والفشل في استشراف خبايا السياسة وملابساتها.
فهذه الحرب بصرف النظر عن صحّة أو سوء تقدير «حماس» عندما بادرت إليها، وعن سوء قراءة المعادلات الوطنية والإقليمية والدولية أو دقتها وصحّتها، وبصرف النظر عن أحقّية المراهنة على «المحور» أو غيره من عدمها، وحتى بالرغم من حقيقة ضعف الحالة الوطنية، وحالة الانقسام، وآثار الحصار المتواصل على القطاع، بصرف النظر عن كل ذلك، هذه الحرب تحوّلت موضوعياً إلى حرب وطنية عظمى في تاريخ الشعب الفلسطيني كلّه، وتحوّلت حرب الإبادة الإجرامية إلى حرب على فلسطين، وإلى حرب لتصفية القضية الوطنية للشعب الفلسطيني، وإلى حرب على وجوده، وعلى حاضره، ولتصفية مستقبله لسنوات طويلة قادمة، وهي حرب أرادت منها دولة الاحتلال أن تحسم الصراع، بكلّ ما امتلكت من إمكانيات ووسائل، وبكل ما لديها من قدرات ومقدّرات، وبكل ما استطاعت أن تحشده من طاقات في كلّ بلاد «الغرب»، من أسلحة ودعم سياسي ومن إعلام ومن مؤسّسات.
هذه حرب كانت تخطّط لها دولة الاحتلال بدءاً من تهجير القطاع بعد تدميره، ومروراً بالضفة استيطاناً وضمّاً وتشتيتاً وتقطيعاً وصولاً إلى إنهاء الوطنية الفلسطينية كهوية وككيانات وطنية، وإخضاع الشعب الفلسطيني في الداخل الفلسطيني للدولة العنصرية اليهودية التي تضع كل فلسطيني أمام احتمالات سموتريتش الثلاثة الشهيرة.
هذه الحرب كانت ستأتي لأن «الحسم» قراره اتخذ قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والخرائط رسمت من أجل محو فلسطين عن خارطة الإقليم كلّه، و»طريق الهند» تحول إلى أكبر مشروع غربي في التاريخ كله وكان له اتجاه واحد ووحيد: غزّة هي الممرّ الأوّل نحو حيفا، ونحو الدور الإسرائيلي في «الشرق الأوسط الجديد».
والحرب كانت ستبادر بها دولة الاحتلال، ليس فقط ضدّ غزّة، وليس فقط ضدّ لبنان ــ وقد رأينا أنّ مخطّطات الاغتيالات كانت أسبق على «طوفان الأقصى» بعدة سنوات ــ وإنّما ضدّ كلّ من يقف في طريق هذا المشروع، والآن جاء إسقاط نظام الأسد في نفس الاتجاه والتوجُّه.
ليس مهمّاً من بادر إلى الحرب لأنها كانت ستقوم، بل إن كان لأهمية هنا فهي أن المبادرة إليها كانت هي الأصحّ، والأجدى والأقوى.
وما كان يجدر بأيّ فلسطيني أن يُقزّم هذه الحرب، ويعتبرها مبادرة «فصيلية»، أو مغامرة غير محسوبة، أو مخاطرة لا تحسن قراءة الموازين، ما كان لأحد أن يضع كل هذا الإطار لقراءة هذه الحرب طالما أنّها حرب إبادة ضد شعب، وطالما أنّ الحلف الذي قادها هو «الغرب» المستعمر، وطالما أنّ الفاشيّة الصهيونيّة هي التي أشرفت على كلّ فصولها.
الحرب انتهت بأنّها أعادت فلسطين إلى خارطة الإقليم بقوّة لم يعد باستطاعة أحد، كائناً من كان أن يزيحها أو ينتقص من حقوقها. فشلت دولة الاحتلال هنا، ونجح «طوفان الأقصى» هنا، وهنا بالذات تكمن القضية كلّها.
هذه أطول حرب خاضعها الشعب الفلسطيني، وأقسى حرب مرّت عليه، وهذه حرب كلّفته من التضحيات ما يفوق كلّ تصوُّر، ولكنها الحرب التي كسرت المشروع الصهيوني للمرّة الأولى في تاريخ الصراع.
يتبع في المقالات القادمة مناقشة كلّ أبعاد الحرب.
لماذا غرينلاند الآن؟
11 يناير 2025